يرى حقوقيون ان اللامركزية نظام اداري يوفر الادارة الحرة للمجموعات المحلية، وتظل رقابة الدولة محصورة في الرقابة القانونية على عمل تلك المجموعات التي تماثل المجالس البلدية في مملكة البحرين. وفي السياق ذاته يعتبر «القاموس الفرنسي» ان اللامركزية الادارية هي ادارة منطقة من خلال السلطات المحلية المنتخبة. ويؤكد رئيس وزراء فرنسا السابق بيار موروا «اتجاه اللامركزية لتأمين حياة افضل للمواطنين». وكذلك فان اللامركزية اليوم هي نشاط دولي يجمع معا اشخاصا من بلدان ومجموعات مختلفة لتشجيع الديمقراطية المحلية. وفي دراسة عن «اللامركزية في لبنان» يؤكد خالد قباني «ان البلديات اصبحت نواة الادارة المحلية اللامركزية في لبنان». وجاء في مقدمة قانون البلديات البحريني الآتي: «... حدد المشرع اختصاصات المجالس البلدية والتي تتمحور حول فلسفة واحدة قوامها الاعتراف من المشرع بنظام الحكم المحلي أو اللامركزية الادارية».
وفي ضوء المقدمة السابقة ينبغي على النواب متابعة السجال مع الوزير المختص بشئون البلديات الذي بدأ في دور الانعقاد السابق، وذلك لسبر اغوار ماهية العلاقة بين البلدية ذات الشخصية الاعتبارية والوزير من جهة، وبين المجلس البلدي والجهاز التنفيذي من جهة أخرى، أو بمعنى ادق وكما جاء من خلال سؤال النائب حمد المهندي: لمن تكون تبعية الجهاز التنفيذي؟ وهل يجوز للوزير الاتصال بالجهاز مباشرة؟ وجاء الرد امام مجلس النواب في جلسته في تاريخ 24 مايو/ آيار 2003، اذ قال الوزير محمد الستري: ان الجهاز التنفيذي سلطة مستقلة اداريا وماليا، وأضاف موضحا: لكي نفهم (تبعية الجهاز التنفيذي) هذا الامر بشكل أوضح اود ان اشير الى المادة التي حددت السلطات في القانون، المادة (4) في القانون ماذا تقول؟ «يتولى السلطات في كل بلدية» والتعبير بلفظ الجمع من قبل المشرع ليس اعتباطا. هذا ما قاله الوزير امام مجلس النواب، واستطرد بعد ذلك قائلا: لم يقل المشرع يتولى السلطة في كل بلدية، وانما قال «يتولى السلطات» بالجمع وبالتالي لمن يريد ان يفهم هذا النص يجب ان يبحث فيه عن اكثر من سلطة والا لما صح التعبير.
وقال الوزير: ان القانون نفسه لم يترك لأي مفسر ان يقول ما هي هذه السلطات وانما نص في المادة (4) فقال: (أ) المجلس البلدي ويمارس سلطة اصدار اللوائح والقرارات والاوامر ومراقبة كل ذلك في حدود اختصاصات المجلس المنصوص عليها في المادة (19) من القانون. (ب) الجهاز التنفيذي ويمارس سلطة التنفيذ.
وعلى ذلك، استنتج الوزير الستري ان هناك سلطة لاصدار القرارات وهناك سلطة للتنفيذ. وهاتان السلطتان لا تدخل احداهما على الاخرى ولا تنتقص منها وليس لاحداها هيمنة على الاخرى، ويضيف: انه لو كان كذلك لكان معنى ذلك ان يكون هناك تنازع بين السلطتين لكن اعطى كل سلطة اختصاصاتها، وحتى يؤكد مبدأ الفصل بين هاتين السلطتين في البلدية اعطى في مواد لاحقة كل سلطة صلاحية تمثيل هذه السلطة امام القضاء وفي مواجهة الغير. هذا ما قاله الوزير امام مجلس النواب في رده على السؤال المذكور، وقبل ان نسرد نقاط الضعف ونتوقف عندها ونكشف التناقض البيّن نسأل الوزير: هل هذه المجالس التي يرتجي عملها المواطنون الابرياء الذين انتخبوا مجالس بلدية لتعزيز المشاركة الشعبية في صنع القرار ولادارة مناطقهم بحسب ما يرونه صالحا لهم؟ وليس للتفرج على قرارات الوزير؟ وهل هذه هي اللامركزية التي تضع المواطن في قلب منظومة الحكم والمشاركة الشعبية في صنع القرار؟
حاول الوزير ان يفهمنا ان ما جاء في المادة (4) من قانون البلديات الصادر بمرسوم بقانون (35) لسنة 2001 «يتولى السلطات في كل بلدية» ان كلمة السلطات ترجع الى المجلس البلدي والجهاز التنفيذي، وبنى على هذا المفهوم جميع قرارات الوزارة تجاه العمل البلدي ومعاملاتها مع المجالس البلدية المنتخبة والجهاز التنفيذي في البلديات.
ان كلمة السلطات ترجع الى البلدية اذ ان القانون ينظم العمل البلدي الذي تم تدشينه بعد الغاء انظمة ادارة البلديات السابقة، بحسب المادة (2) من المرسوم بقانون رقم (35) لسنة 2001، وأعطت تلك المادة البلدية شخصية اعتبارية تتمتع بالاستقلال المالي والاداري لادارة المرافق العامة ذات الطابع المحلي لكل من البلديات الخمس، فان السلطات التي ذكرت في المادة (4) هي سلطات البلدية من اصدار قرارات وأوامر وتوصيات واقتراحات وتنفيذها ومراقبتها كل ذلك من اختصاص البلدية ذات الشخصية الاعتبارية وليست السلطات مخصصة لأي من المجلس البلدي أو الجهاز التنفيذي اللذين هما هيئتان اداريتان تمارسان سلطات البلدية كما جاء في الدستور بنص المادة (50) في الفقرة (أ): ينظم القانون المؤسسات العامة وهيئات الادارة البلدية بما يكفل لها الاستقلال في ظل توجيه الدولة ورقابتها، وبما يكفل لهيئات الادارة البلدية ادارة المرافق ذات الطابع المحلي التي تدخل في نطاقها والرقابة عليها، وبما ان قواميس اللغة العربية تفسر لنا كلمة مجلس على انه هيئة وكذلك بالنسبة الى كلمة جهاز على انه ايضا هيئة فانه لا يتعارض فيما نذهب اليه من ان المجلس البلدي هو هيئة ادارية وان الجهاز التنفيذي هو هيئة ادارية وكلاهما يتوليان السلطات البلدية كوحدة ادارية مجتمعة وليست منفصلة أو مستقلة عن بعضها البعض، وكما جاء في المادة (4): «يتولى السلطات في كل بلدية» و(في) تعني داخل كل بلدية وليس من خارج أو منفصل او مستقل عنها، وجاءت كلمة يتولى بمعنى المفرد اي ان الجهة أو الجهات التي ستتولى سلطات البلدية موحدة وليست منفصلة عن بعضها البعض كما اراد الوزير ان (يجرجر) الكلمات الى غير معناها ومقاصدها محاولا تأويل النصوص وما يتوافق مع ما ارتكب من اجحاف في حق المجالس المنتخبة، وآخرها افتتاح ديوانية الوزير لتلقي شكاوى المواطنين، بعد ان استقبل شكاوى موظفي المجلس البلدي. فماذا تبقى للمجالس من عمل تمارسه؟ وماذا تبقى من مفهوم اللامركزية الذي يطنطن له المسئولون؟
وبما ان الوزير أصر على ان السلطات في البلدية مستقلة عن بعضها بعضا، واستند في ذلك الى ان رئيس المجلس البلدي يمثل المجلس امام القضاء والمدير العام يمثل الجهاز التنفيذي امام القضاء، وجعل الوزير تمثيل كل من رئيس المجلس والمدير العام كاقرار من المشرع او سند قانوني لجعلهم سلطات مستقلة عن بعضها البعض. وبالتالي لا يجوز - بحسب قول الوزير - ان تتنازل اية سلطة من هاتين السلطتين الى السلطة الاخرى.
وبما ان المادة (30) من قانون البلديات جاءت كالآتي: «يرأس الجهاز التنفيذي لكل بلدية مدير عام يصدر مرسوم بتعيينه، وهو الذي يمثل هذا الجهاز امام القضاء وفي مواجهة الغير» واذ ان المادة (29) من القانون نفسه تنص على: «يكون لكل بلدية جهاز تنفيذي يشكل من وحدات ادارية ويبين اختصاصاتها وتوزيع العمل بينها في اللائحة التنفيذية لهذا القانون»، وبالتالي ان الجهاز التنفيذي يتبع البلدية التي يعمل فيها ويعتبر اداة ادارية تنفيذية، اي ان الجهاز التنفيذي ومديره العام يتبعان البلدية ذات الشخصية الاعتبارية التي تتولى المرافق العامة ذات الطابع المحلي، وليس الجهاز التنفيذي سلطة مستقلة أو تابعة لوزارة شئون البلديات والزراعة كما اراد الوزير ان يقنع الآخرين بذلك.
وبما ان المدير العام يمثل هذا الجهاز - اي هذه الهيئة - كما جاء في المادة (30) يمثل هذا الجهاز امام القضاء... فان اصرار الوزير على جعل الجهاز التنفيذي ذا سلطة مختلفة ذات استقلال مالي واداري كما يدعي الوزير هو مخالفة قانونية ودستورية، اذ ان قول الوزير ان اختلاف سلطات البلدية واستقلاليتها عن بعضها البعض «يؤكد مبدأ الفصل بين هاتين السلطتين في البلدية» وذلك ما نعني به مخالفة دستورية اذ ان مبدأ الفصل بين السلطات وكما هو معروف عند فقهاء القانون انه فصل للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولا نعلم اي فقيه قانوني افتى باحلال هذا المبدأ على اي من العلاقات الادارية في الدولة.
واذ انه جاء في المادة (32) من دستور مملكة البحرين وفي الفقرة (أ): «يقوم نظام الحكم على اساس فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع تعاونها وفقا لأحكام هذا الدستور ولا يجوز لاي من السلطات الثلاث التنازل لغيرها عن كل او بعض اختصاصاتها المنصوص عليها في هذا الدستور... الخ» وبما انه وكما بينا سلفا من ان المجلس البلدي والجهاز التنفيذي هيئتان اداريتان تعملان كوحدة ادارية واحدة تتولى سلطات اصدار القرارات والتوصيات والاوامر والاقتراحات لحسن سير ادارة المرافق العامة ذات الطابع المحلي، واتخاذ ما يلزم لتنفيذها ومراقبتها والحفاظ على حقوق ومصالح البلدية. وبناء على ذلك فان اقحام الوزير لمبدأ فصل السلطات في النواحي الادارية يعد من قبيل عمل الغريق الذي يتعلق بالقشة، وايضا من عمل العطشان الذي ظن أن السراب ماء، فلا القشة انقذت الغريق ولا السراب روى ضمأ العطشان. ولكي يقنع مستمعيه حاول الوزير ان يبرر تدخلاته في العمل البلدي بأنها قانونية نابعة من مسئولياته الدستورية امام جلالة الملك.
والسؤال الذي يفرض نفسه بين ثنايا السطور السابقة هو: هل عدم قيام المجالس البلدية بواجباتها يبرر (سلب) اختصاصها؟ طبعا لا. ولكن كان للوزير رأي آخر جاء في الرد امام مجلس النواب وهو: «المجالس البلدية لم تنهض الى مباشرة اختصاصها في اقتراح النظم المتعلقة بالزوايا على رغم مضي مدة طويلة على تشكيلها». والله ان هذا مبدأ خطير يحاول الوزير تأصيلة في النظام اللامركزي المدعى به دائما.
ان ما توصل اليه الوزير من التحليلات والاستنتاجات الغريبة على العارفين بالقانون القارئين للدستور والمتتبعين للاصلاحات السياسية التي تقوم على اساس المشاركة الشعبية لصنع القرار، والتي تقوم ايضا على ادارة المرافق ذات الطابع المحلي (الادارة المحلية) كل هؤلاء يعتبرون استنتاجات الوزير ليست مبنية على الفهم الصحيح للمواد القانونية والدستورية وهو ما حاولنا بيانه سابقا، وكذلك فان قرارات ومعاملات الوزير مع المجالس البلدية المنتخبة التي استند عليها نابعة من فهمه للمادة (8) من قانون البلديات التي تؤكد «ان رئيس المجلس البلدي يمثل المجلس البلدي» (ولم يقل المشرع يمثل البلدية هذا ما يحتج به الوزير) فنقول: ان هذه المادة تبين التمثيل امام القضاء، ولكن اين الوزير من صلاحيات رئيس المجلس البلدي في المادة (20) من الفرع الثاني من اللائحة التنفيذية اذ تنص في الفقرتين:
(ز) تمثيل البلدية في المؤتمرات والندوات والاجتماعات والمحافل الرسمية.
(ح) المحافظة على حقوق البلدية ومصالحها... الخ.
هاتان الفقرتان تبينان من الذي يملك حق تمثيل البلدية ذات الشخصية الاعتبارية في المحافل الرسمية، ومن الذي انيط به الحفاظ على حقوق ومصالح البلدية ذات الشخصية الاعتبارية وهو رئيس المجلس البلدي الذي يحاسبه جلالة الملك «اذا ارتكب مخالفات جسيمة متكررة ادت الى الحاق ضرر بمصالح البلدية» ذلك هو نص المادة (18) من قانون البلديات.
وبناء على ما جاء في رد الوزير من ان المجلس البلدي المنتخب هو «رقابة شعبية» يقتصر عمله على كشف اخطاء الجهاز التنفيذي، ورفع الامر الى الجهات الرئيسية المسئولة في الجهاز او عن ممثله في وزارة شئون البلديات هذا هو جواب الوزير، وقطعا ليس المجلس البلدي كما ذكر الوزير، بل هو هيئة إدارية تنفيذية تقدم خدمات البلدية وتمارس اختصاصات اكثر مما جاء في المادة (19) من قانون البلديات التي اراد الوزير (حصر) صلاحيات المجالس البلدية فيها، فالمادة (4) تعطي المجلس البلدي ممارسة سلطة اصدار اللوائح والقرارات والاوامر ومراقبتها، وكذلك جاء في المادة (3) من اللائحة التنفيذية لقانون البلديات الآتي:
«يتولى المجلس البلدي في كل بلدية ووفقا لاحكام قانون البلديات اصدار اللوائح والقرارات والاوامر والتوصيات اللازمة لحسن ادارة المرافق العامة ذات الطابع المحلي الواقعة في نطاق اختصاص البلدية، والكفيلة بضمان تسيير هذه المرافق بانتظام واطراد، وتكون هذه اللوائح والقرارات والاوامر والتوصيات نافذة في حدود اختصاصات المجلس متى صارت نهائية، ويتولى الجهاز التنفيذي في البلدية تنفيذها، كما يتولى المجلس البلدي الرقابة على المرافق العامة السالفة الذكر والاشراف على مختلف الاعمال المرتبطة بها والتي تدخل في اختصاصه»، هذه المادة تبين خطأ ما ذهب اليه الوزير في محاولته لشرح المادة (8) والمادة (30) من قانون البلديات حين قال «ان المشرع قد حرص على التمايز بين المجلس البلدي والجهاز التنفيذي كسلطتين مستقلتين مختلفتين في البلدية وعدم الدمج او الخلط بينهما على نحو أو آخر».
ويتضح ايضا في المادة (3) من اللائحة التنفيذية ان المشرع دمج بين عمل هيئات البلدية - أي المجلس البلدي والجهاز التنفيذي - وجعل الجهاز التنفيذي في محيط مسئوليات المجلس البلدي المنتخب الذي اناط المشرع به وضع النظم اللازمة لحسن ادارة المرافق العامة ومن ثم الرقابة والاشراف على مختلف الاعمال المرتبطة بذلك.
ختاما نتمنى ان يرتقي العمل البلدي الى مستويات الادارات المحلية في الدول المتقدمة، وذلك ما تطمح اليه القيادة السياسية مترجمة تلك الاماني في كلمات جلالة الملك «نحن نريد للمجالس البلدية ان تعبر عن آراء السكان في كل محافظة من محافظات المملكة» وايضا «ان صنع القرار البلدي لا يقل أهمية عن صنع القرار السياسي على المستوى الوطني» فهل أمعن المسئولون النظر في كلمات جلالته وحاولوا تطبيقها؟
إقرأ أيضا لـ "محمد العثمان"العدد 463 - الجمعة 12 ديسمبر 2003م الموافق 17 شوال 1424هـ