سبق وتناولنا في مقال سابق سعي بعض الباحثات وعلماء الشريعة والناشطات في مجال حقوق المرأة بملتقى شبكة «شقائق» الذي عقد في الإسكندرية نهاية الشهر الماضي، إلى نقد الخطاب الإسلامي السائد تجاه قضايا النساء وتجديده، حيث خلصنا إلى وجود تحديات ستواجه الشبكة وشركاؤها والتي يمكن تبين طبيعتها ومستوياتها من خلال «إعلان الإسكندرية». ترى ما طبيعة هذا الإعلان وما تضمنه من أفكار ومحاور؟
في المحتوى والمضمون، تضمن الإعلان مقدمة ومنطلقات وسبعة محاور اشتملت على حقوق المرأة ومسئولياتها، فأشارت المقدمة إلى أهمية إصداره من الأرضية المعرفية والثقافية التي تؤكد على الحقوق المشروعة للنساء، كما تلبي تطلعاتهن نحو العدالة والمساواة والإقرار بعقائدهن وتنوع ثقافتهن استناداً إلى مبادئ الشريعة واجتهاداتها الأصلية.
ويعد الإعلان ثمرةً لمناقشات دارت في الأزهر من 2012- 2013 وبمشاركة رموز نسائية مصرية وجمعيات أهلية معنية بحقوق النساء، وبالتالي فهو يتضمن مبادئ أساسية وقواسم مشتركة للحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على نحو يلائم المجتمعات الإسلامية على اختلافها، ويسمح لها بالتعامل مع قضايا النساء وفقاً لثقافتها وأوضاعها السياسية والاقتصادية المختلفة، وإنه -أي الإعلان- وثيقة مفتوحة وقابل للتطوير عبر الحوار والاجتهاد الإسلامي حول حقوق النساء، أما بشأن المحاور السبعة فيمكن إيجازها في التالي.
أولاً: قيمة المرأة الإنسانية والاجتماعية: فوضع المرأة في الإسلام يتأسس على مساواتها بالرجل في المكانة والعضوية في الأمة والمجتمع، وعلى المسئولية المشتركة بينهما، وهذان المبدءان قرّرتهما آيات واضحة ولا يجوز التحيف عليهما ولا تحجيمهما، كما إن مفهوم القوامة يؤكد على المسئولية الحكيمة، بما يعني التزام الزوج نحو الأسرة وتوفير حاجات الزوجة والأسرة المادية والمعنوية، لكنها أيضاً لا تعني سلطة الرجل - سواء كان زوجاً أو أباً- في التصرف المطلق والهيمنة على الزوجة والأبناء.
إن المرأة المسلمة فاعل مؤسس في «العقد الاجتماعي»، الذي تأسست بموجبه الأمة الإسلامية من خلال ما يعرف بـ «بيعة النساء» في صدر الدعوة التي تم تعميمها فصارت أساساً للبيعة العامة، وبالتالي فإن لها حقوقاً سياسية واقتصادية مساوية للرجل متى ما توافرت لها الكفاية والمقدرة.
ثانياً: الشخصية القانونية للمرأة: يشير «الإعلان» إلى تمتع المرأة بالأهلية الكاملة، ولها ذمتها المالية المستقلة ومسئوليتها القانونية، وحق التصرف الكامل المستقل فيما تملك، كما لها حق شرعي غير منازع في الميراث، وعلى الدولة ضمان حصولها على هذا الحق. كما على أهل العلم وحكماء الأمة وضع حدٍّ للأعراف والتقاليد الظالمة المعطلة لإعمال النصوص الشرعية لميراث المرأة. أما الجدل المثار حول نصيب المرأة في الإرث ومحاولة الاستدلال به على ضعف مكانتها في الإسلام فهو جدل مفتعل من المعارضين والمؤيدين على السواء؛ بسبب أمرين، الأول: عدم جواز استنباط تعميمات تتعلق بشخصية المرأة ومكانتها من أحكام جزئية كالميراث بعد أن حسم المشرع قضية مساواة المرأة ومكانتها بالنصوص الواضحة، والثاني أن حكمة التشريع لا تنبني على الحقوق وحدها بل على منظومة الحقوق والالتزامات، حيث أن مضاعفة نصيب الرجل إنما هي مقرونةٌ بفرضية الإنفاق الكامل على الأسرة والأقربين المعوزين، يقابله إعفاء المرأة من الإنفاق، ما يعني أن المساواة لا تعني التشابه والتماثل في الدقائق والتفاصيل بل في التوازن بين الحقوق والالتزامات حسب «الإعلان».
ثالثاً: المرأة والأسرة: الأسرة أساس المجتمع ووحدته الأولى، وهي كيان تعاقدي ومادي ومعنوي يتم بالتراضي والقبول المتبادل، ويستوجب على الدولة والمجتمع دعمها وصون حقوقها، وهي تقوم على المشاركة والشورى والعدل والمودة والرحمة، وإنفاق الرجل على المرأة والطفل يعتبر حقاً لهما وواجباً عليه، ولا يعني ذلك حبس المرأة والرجل في تلك الأدوار فقط؛ لأن لكل منهما أدواراً متعددة.
ويؤكد «الإعلان» أن تشريعات الأسرة المستندة للمرجعية الإسلامية بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الجهد لاستيعاب المفاهيم والقيم الصحيحة للأسرة وأهمها مفاهيم المودة والرحمة، والطلاق شرعي عند استحالة العشرة ولا يجوز تعسف الرجال في استخدامه كحق، ولا سبيل للافتئات على حقوق المرأة المقرّرة شرعاً، كما يجب تقنين التحكيم في حلّ المشكلات الزوجية، والأخذ بالاجتهادات الفقهية التي تحد من فوضى الطلاق، وأن رعاية الأبناء مادياً ومعنوياً واجب بين الأبوين ولا يجوز التنازل عنها على أن يتم تنظيم هذا الحق قانوناً وفق قواعد الشرع بما فيه مصلحة الطفل، ولا ينبغي أن يكون دور المرأة الإنجابي سبباً في التمييز الاجتماعي.
رابعاً: المرأة والتعليم: التعليم حقٌّ من حقوق المرأة أكدته النصوص الإسلامية، ولا مجال للزعم بأن الإسلام يفرض على المرأة مجالات تعليمية معينة بحجة أنها تلائم طبيعتها الأنثوية ومهمتها الأمومية، أو الحظر على التحاقها ببعض التخصصات، فهذه أعراف وعادات لا علاقة لها بالإسلام، وعلى الدولة والمجتمع دعم فرص تعليم المرأة دون تمييز، وعلى الجهات الإسلامية المختصة مسئولية في درء الفجوة القائمة بين الرجال والنساء في مجالات العلوم الشرعية كالفقه والتفسير.
خامساً: المرأة والعمل: إن الواقع المعاصر ومتطلباته ونتيجةً للتعليم، فرض على النساء العمل؛ وهذا يحتم التزامات على الدولة والمجتمع، أولها اعتماد قاعدة تكافؤ الفرص والعدالة وإعمال مبدأ الرعاية وتيسير قواعد العمل دعماً للعاملات وحفظاً للأسرة من الانهيار. والثاني، على الدولة توفير حدود الكفاية من التعليم والمعيشة الكريمة والسكن بشكل متساوٍ للمرأة والرجل انطلاقاً من حقوق المواطنة.
سادساً: المرأة والأمن الشخصي: إن مسئولية الحفاظ على الحرمات الإنسانية وصون المرأة من التحرش والاعتداء الجنسي تعتبر مسئولية جماعية ومن الضرورات الشرعية. كما يقع على عاتق الدولة وضع التشريعات القانونية التي تجرّم كل أشكال الانتهاك الجنسي والجسدي للمرأة، بدءًا من التحرّش القولي والمادي ومروراً بالاغتصاب وانتهاءً بتجارة الأعراض والأطفال بكل أشكالها، فضلاً عن إيجاد وسائل الحماية وضمان تحققها على أرض الواقع.
سابعاً: المرأة والعمل العام: للمرأة حق تولي الوظائف العامة متى اكتسبت المؤهلات، وعلى الدولة تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص إزاء المرأة والرجل، كما لها حق العمل التطوعي حسبما تهيّؤه لها ظروفها الخاصة وإمكاناتها ومواهبها وحوافزها الشخصية. ولها حق أصيل في الجماعة الوطنية ومنها حق -وواجب- النصيحة والشورى والقيام بالقسط، وهذا يفرض عليها المشاركة في العمل العام ناخبةً ومنتخِبةً، لإيصال ما تراه صحيحاً من آراء وحقوق ومصالح عامة إلى القائمين على صنع القرار.
والخلاصة، إنه من الواضح أن محاور «إعلان الإسكندرية» جاءت بما يتماشى ومتطلبات الاتجاهات العالمية الساعية لتحقيق تقدم في حل مشاكل النساء وتثبيت حقوقهن في مجتمعاتنا العربية والإسلامية. لقد قدّم «إعلان الإسكندرية» قراءته عن وضع المرأة المسلمة في الأسرة ودورها في المجتمع وتعليمها وعملها والقوامة والحريات الشخصية وغيرها، استناداً إلى المرجعية الدينية التي لا تقبل تجاوز أصول النص، بيد أن التحديات تكمن عند مناقشة المحاور والاجتهادات والتفسيرات المتعددة لموضوعاتها حسب المرجعيات الإسلامية المتعددة، لاسيما في القضايا التي تمس الجوهر الأصيل لحقوق المرأة والتي تشكّل فجوةً في ضمان حقوقها وحريتها وكرامتها مقابل كم من المحرمات والضغوطات الاجتماعية والدينية. ومع ذلك يبقى «إعلان الإسكندرية» خطوةً جريئةً ومتقدّمةً في سياق تجديد الخطاب الديني المتعلق بحقوق المرأة.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4628 - السبت 09 مايو 2015م الموافق 20 رجب 1436هـ
لم أر جديداً
ما جاء في الإعلان كاشف عن جوانب عدة، و جوهرية في قضايا المرأة في الإسلام، إلا أنه ليس بقراءة جديدة، بل طرحه عدة مفكرين إسلاميين سلفاً، ربما الجديد فيه إعادة صياغة.
لكنه يبقى خطوة لها قيمتها في هذا الشأن.