قال الباحث فريدريك ويري في مقالٍ مطوّل نشره موقع مركز كارنيغي للشرق الأوسط إنه "منذ اندلاع الربيع العربي في العام 2011، انهارت السلطة العسكرية المركزية في كلٍّ من شمال أفريقيا والمشرق العربي واليمن، ولجأ العديد من الدول العربية الضعيفة إلى الميليشيات المحلية لمساعدته على الدفاع عن أنظمته. صحيح أن هذه الميليشيات الموالية للحكومات يمكن أن تؤدّي أدواراً أمنية مهمة، إلا أنها تتمتّع بمقدرة عسكرية ومصداقية محدودتَين. والواقع أن نقل مقاتلي الميليشيات إلى قوات حرس وطني لها روابط رسمية مع هيكلية القيادة الوطنية، يمكن أن يتخطّى بعض هذه المعوقات، إلا أن هذا الانتقال يجب أن يترافق مع التزام أوسع بإصلاح قطاع الأمن وتقاسم السلطة السياسية.".
وفيما يأتي جزء من المقال:
دور الميليشيات المتنامي
بعض الميليشيات يرتبط بالأحزاب الحاكمة ويستمدّ المقاتلين مباشرةً من مناصري النظام. في المقابل، تتكوّن ميليشيات أخرى من فصائل ثورية سابقة أو منشقّين من مجموعات إرهابية ومتمرّدة، وغالباً ماتسعى هذه الميليشيات إلى الإبقاء على استقلاليتها حتى لو أعلنت الولاء ووضعت نفسها في خدمة الدولة.
في العديد من البلدان العربية، بما فيها العراق وليبيا وسورية واليمن، تضطلع الميليشيات بدور مهم في عمليات مكافحة التمرّد والإرهاب.
غالباً ماتكون الميليشيات أقل تكلفة وأكثر ليونة من قوات الأمن النظامية، كما تتمتّع بمعرفة محلية أكبر، مايتيح لها أن تنشط بفعالية في المناطق حيث لاتستطيع قوات الأمن النظامية العمل.
غالباً ما تفتقر الميليشيات إلى المهنية، وقد ترتكب أعمال عنف ضد السكان المدنيين، فيما تتيح للأنظمة تنصّلاً مقبولاً وحصانة في وجه التنديد الدولي بانتهاكات حقوق الإنسان.
من الخطر الاعتماد على الميليشيات. فهي قد ترفض الانصياع إلى الأوامر، أو قد تنقلب على رعاتها الدوليين. وحتى لو كانت الميليشيات وفيّة، فهي غالباً ماتفتقر إلى التدريب والمعدّات الضرورية لمواجهة أعداء أقوى. وقد يؤدّي انتشارها إلى ضعضعة احتكار الدولة لاستخدام القوة.
كيف يُمكن للحرس الوطني المساعدة على تأمين الاستقرار؟
يمكن للحرس الوطني أن يؤمّن روابط رسمية وقانونية بين مقاتلي الميليشيات المحليين وبين الدولة. قد يساعد تنظيم الحرس الوطني على طول خطوط المحافظات والبلديات في تحقيق أكبر قدر من الدعم المحلي، وربط القوات المحلية بهيكلية القيادة الوطنية في الوقت نفسه.
لن تكون القوات الجديدة فعّالة إلا إذا تم إطلاقها كجزء من إصلاحات أوسع للقطاع الأمني. يتطلّب الدمج الناجح للحرس الوطني تعديلات في ثقافة الأجهزة الأمنية الرئيسة وتدريبها للحدّ من انعدام الثقة والمنافسة في مابينها.
ينبغي أن يترافق إطلاق برامج الحرس الوطني مع إصلاحات سياسية وتقاسم السلطة. يمكن للحرس الوطني أن يعزّز الترتيبات الاتحادية التي توفّر الحكم الذاتي المحلي، فيما تساعد على ضمان ولاء المقاتلين للدولة وتعزيز التماسك السياسي. لكن انتقال السلطة العسكرية وحده ليس بديلاً عن إقامة تسوية سياسية بين الحكومة المركزية وبين الأقليات الإثنية-الطائفية أو المناطقية.
مقدمة
عمد العراق وليبيا وسورية واليمن، وهي الدول التي تُواجِه جميعاً مشكلة الجيوش الوطنية التي انهارت بنسب متفاوتة، إلى إقامة تحالفات بشكل مطّرد مع ميليشيات مسلحة بهدف محاولة ضمان أمنها.
هذا التفكّك للجيوش- الذي بدأ في العراق مع إطاحة الولايات المتحدة لصدام حسين في العام 2003 وفي بلدان أخرى على إيقاع ثورات العامَين 2011 و2012- سببه المجابهات مع الاحتجاجات الشعبية، والمعارك المتصاعدة مع مجموعات مُتمردة يرتبط العديد منها بالحركات الراديكالية الإسلامية. بيد أن الانشطارات الداخلية، بما في ذلك التنافسات العشائرية في اليمن، والتصدّعات بين المدن والمناطق في ليبيا، والانشقاقات الطائفية في سورية والعراق، سرّعت من وتيرة هذه الانهيارات.
العديد من هذه الميليشيات الموالية للحكومة، والمتحالفة الآن مع هذه الدول المُحاصرة بالاضطرابات، نُظِّمَت على أُسُس عِرقية- طائفية أو روابط قَبَلِية. وهي تُكمِّل، أو أحياناً تكون بديلاً للجيش والشرطة الضعيفين أو الغائبين كمصدر للأمن المحلي. 1 ولاحقاً، يمكن لهذه الميليشيات أن تشكِّل منطلقاً لتشكيل جهاز حرس وطني جديد. ومثل هذه المقاربة قد تفيد من القواعد المحلية الداعمة للميليشيات، فيما يجري العمل لدمجها في هيكلية قيادة وطنية.
بالطبع، مفهوم الحرس الوطني يواجهه عقبات كأداء عدة، كما تبيّن بوضوح خلال دراسة هذه التجربة في العراق وليبيا. إذ أن هيكلية الحرس تطرح أسئلة كبرى حول قضية تماسك الدولة ككل، وحول عملية المساءلة فيها. فهذه القوى قد تُضعِف الدولة بدل أن تعضدها. لكن، إذا مابُنِيَت على أُسُس سليمة، فقد تخدم كخطوات أولى مبدئية على الدرب الطويل نحو ترتيبات جديدة لتقاسم السلطة تستند إلى مبدأ الشمولية للجميع والتمثيل المحلي، بدلاً من ممارسة المركز الإقصاء والقمع. وبهذا المعنى، قد تكون هذه القوى أفضل أمل لاستعادة الاستقرار في هذه البلدان الهشّة.
لكن في نهاية المطاف، فإن تشكيل الحرس الوطني يجب أن يرتبط بالإصلاحات في ميادين أخرى، إذا ما أُريد لهذه المقاربة أن تنجح. والأولوية القصوى هنا هي الإصلاح داخل قطاع الأمن نفسه، بما في ذلك ترقية ثقافة التعاون بدل التنافس، وتعزيز حلقات القيادة والإشراف الدقيق بين الميليشيات وبين أجهزة الأمن النظامية. وثمة أمر ملحّ آخر هو الإصلاح السياسي، الذي يؤثِّر على الطريقة التي تُوزَّع فيها السلطة وتُستوعَب بموجبها الأقليات العرقية- الطائفية والمجموعات الطرفية الأخرى في تضاعيف الدولة.
الدور المتطِّور للميليشيات
كان للحكام العرب دوماً علاقات ازدواجية متناقضة مع الميليشيات والقوى المسلحة الأخرى غير الدُولتِية. فالعلّامة العربي ابن خلدون افترض وجود توتر وتنافس كامنَين بين الدولة وبين القبائل المُولَعة بالحرب، والتي كانت تجوب المناطق الداخلية غير الحضرية.2 بيد أن الدول غالباً ماكانت تلجأ إلى شيوخ القبائل وقادة المجموعات العسكرية والعصابات الإجرامية للمساعدة على تحصيل الضرائب، وفرض الأمن والنظام، وقمع المتمردين. كل الامبراطوريات العثمانية والبريطانية والفرنسية، جنّدت القوات القَبَلية لمساعدتها على ممارسة السيطرة.3
غداة حصولهم على الاستقلال في أوائل منتصف القرن العشرين، جَهَدَ الحكام العرب بقوة للاقتراب من تعريف ماكس فيبر Max Weber الشهير للدولة على أنها الكيان الذي يحتكر شرعية ممارسة القوة، فشكّلوا الجيوش الوطنية الضرورية للحفاظ على البقاء، في منطقة تشوبها الحروب المتكررة بين الدول. بيد أن هذه الجيوش وُظِّفَت أيضاً لقمع المعارضة والتمرّدات الداخلية ضد الدولة. وقد اعتبر الضباط العسكريون أنفسهم حائزين على مواقع فريدة ومُتمتّعة بالامتيازات، وغالباً ما استولوا على السلطة بأنفسهم باسم الامة. ولذا، أصبحت الانقلابات العسكرية سمة متواترة في السياسات العربية من الثلاثينيات إلى أوائل السبعينيات. وبدءاً من الخمسينيات وحتى السبعينيات، حاولت بعض الأنظمة المرتبطة بالمعسكر القومي العربي الاشتراكي الراديكالي أن تحصِّن نفسها ضد الانقلابات العسكرية، من خلال تشكيل ميليشيات تابعة للحزب الحاكم، وفق نموذج (إلى هذا الحدّ أو ذاك) اللجان الشعبية والميليشيات في الاتحاد السوفييتي. وقاوم ضباط الجيش النظامي مايعتبرونه انتهاكاً من قبل مدنيين غير مدربين لعرينهم المهني. بيد أن هذه الميليشيات لم تكن في الواقع أكثر من مجموعات من سفاكي الحزب الذين يُروِّعون شخصيات المعارضة.
مع مقدّم السبعينيات والثمانينيات، برز نموذج مزدوج من طبقتَين لتنظيم أجهزة الأمن في العديد من البلدان العربية. الطبقة الأعمق والأوطد تشكّلت من أجهزة أمن وحرس رئاسي كثيفَي التسليح، تحدّرت عناصرها من أقارب الحكام وأتباعهم. المسؤولية الرئيس لهذه الطبقة هي إجهاض الانقلابات العسكرية والمؤامرات الداخلية. أما الطبقة الخارجية فتكوّنت من الجيش والشرطة اللذين يمكن نشرهما في حال نشوب حروب أجنبية أو تمرّدات شعبية. لكن هذا الطراز من تقسيم العمل اعترضته جملة مشاكل، بما في ذلك تسعير التنافسات بين الأجهزة وانعدام الثقة، ما أعاق الفعالية القتالية الفعلية.4
مثل هذه البنية التنظيمية لاتزال قائمة في مصر والجزائر ومَلَكِيات الخليج العربي، حيث لاتزال الجيوش متماسكة، وإن كانت متضخّمة. هذه الجيوش الوطنية لاتحوز سوى على قدرات محدودة لاستعراض القوة، مع بعض مواقع استثنائية تتمثّل في فرق العمليات الخاصة وسلاح الجو. ولايزال الدور الأكثر أهمية لها هو منع الانقلابات العسكرية واستخراج العوائد للقواعد الموالية.5
لكن في العراق وليبيا وسورية واليمن، حيث الجيوش انهارت، يُلقي صعود الميليشيات الموالية للحكومة أضواء كاشفة على معضلة مثيرة للقلق. فمن جهة، باتت هذه الميليشيات تلعب دوراً مهماً في مكافحة التمرّد والإرهاب، وغالباً في مناطق لاتستطيع أجهزة الأمن النظامية العمل فيها أو هي لاتريد ذلك. كما أن العديد من عناصر هذه الميليشيات، يأتي من فصائل متمردة سابقاً ومن منشقّين عن مجموعات متمردة، مايمحضهم معرفة فريدة بالظروف والأرض المحليين.6 وعلى سبيل المثال، في أوائل العام 2015 ساعدت الميليشيات الشيعية في العراق على استعادة السيطرة على مدينة تكريت من تنظيم الدولة الإسلامية؛ فيما ساعدت الميليشيات من مصراتة، وهي مدينة ساحلية غرب ليبيا، في منازلة قوات الدولة الإسلامية التي كانت احتلّت جزءاً من بلدة سرت المجاورة، إضافة إلى قرى أخرى محيطة بها.
من جهة أخرى، هناك مروحة من المخاطر الكامنة في تعبئة هذه القوى غير الدُولتية. فالحكومات يمكنها استخدام الميليشيات كوكلاء لها، فتهاجم المدنيين فيما هي تحتفظ لنفسها بدرجة ما من صدقية التنصّل من المسؤولية وبالتالي تجنُّب الرقابة الدولية. ثم أن الميليشيات نفسها غالباً ماتفتقد إلى التدريب والمهنية، مايجعلها ميّالة إلى خرق حقوق الإنسان، وإلى العمليات الإجرامية العامة.
ميليشيات الشبيحة السورية توضح أبعاد هذه المعضلة. فهي انبثقت من شبكات التهريب والابتزاز والرشى التي كانت تعمل بحماية نظام الرئيس بشار الأسد. صحيح أن عناصر الشبيحة وفَّروا قدراً من الحماية للأقليتين العلوية والمسيحية من هجمات الدولة الإسلامية ومتطرفين إسلاميين آخرين، إلّا أنهم توّرطوا أيضاً في ارتكاب فظائع مثل الاغتصابات والتعذيب والقتل الجماعي.7
بمعنى أوسع، الاعتماد على الميليشيات قد ينسف الجهود لإعادة توكيد احتكار الدولة لاستخدام القوة. ففي اليمن، على سبيل المثال، وافقت الدولة على تشكُّل ميليشيات اللجان الشعبية في العام 2011 لمواجهة تعدّيات متطرفي أنصار الشريعة المرتبطين بالقاعدة في محافظة أبين الجنوبية. نجحت هذه اللجان في صدّ تقدُّم الإسلاميين، وحظيت بقدر من الدعم الشعبي لإقدامها على إلغاء فرض الشريعة. لكن، في حين أن هذه اللجان أبدت الولاء للحكومة في صنعاء، إلا أنها أصبحت شرسة بشكل متزايد ضد المدنيين، واستخدمت العنف لتسوية الصراعات الانتقامية القَبَلية والشخصية، وباتت تطالب بحصة أكبر من زبائنية الحكومة.8 وخلال تقدّم المتمردين الحوثيين في أوائل 2015، كانت اللجان الشعبية عاملاً رئيساً في الجهود الدفاعية للرئيس عبد ربه منصور هادي.9
طُرِحَت في العديد من البلدان العربية فكرة تحويل المقاتلين غير الرسميين إلى قوات حرس وطني رسمي في مراحل مختلفة، كوسيلة لحلّ بعض هذه المشاكل. فمن شأن مثل هذا الحرس أن يُضفي الشرعية ويصوغ بشكل رسمي العلاقات بين الدول وبين الميليشيات الموالية للحكومة. ومن خلال توفير أقنية التجنيد، وتعبئة الميليشيات كمساند احتياطي للجيش، تسمح هذه الإجراءات أيضاً للحكومات المركزية الضعيفة بمكافحة المتمردين والجماعات الإرهابية بفعالية أكبر.
ومع ذلك، كانت الجهود لبناء سلك حرس وطني في ليبيا والعراق فاشلة حتى الآن. ففي كلا الحالتين، برزت مقاومة ليس فقط من بعض الأعضاء المرشحين للانضمام إلى الحرس الوطني، بل أيضاً من قِبَل فصائل سياسية، وأعضاء في القوات المسلحة النظامية، ومجموعات مجتمعية أخرى. في ليبيا، عارضت الفصائل الأكثر علمانية وطبقة الضباط القدماء برنامج الحرس الوطني، لأنهم رأوا فيه مسعى من الميليشيات الإسلامية لتحدّي الجيش النظامي. وبالمثل، وفي العراق، حيث كان الهدف من الحرس الوطني حفز السنّة على الانضمام إلى القتال ضد الدولة الإسلامية، سقطت الفكرة ضحية النزاعات البرلمانية حيال مداها ودورها، خاصة من جانب الفصائل الكردية والشيعية. وبالتالي، التمحُّص في هذه الجهود المُحبَطَة من شأنه المساعدة على توضيح إمكانات الحرس الوطني لإعادة بناء الدول العربية، وأيضاً حدود هذه الإمكانات.
الحرس الوطني العراقي: أداة للقوة السنّية؟
في أواخر العام 2014، حين كان العراق يجهد لاحتواء تقدُّم الدولة الإسلامية، دعا مسؤولون عراقيون وأميركيون إلى تشكيل حرس وطني، كوسيلة لدمج الميليشيات القَبَلية السنّية في هيكلية القيادة الوطنية.
هذا الاقتراح له الكثير من القواسم المشتركة مع حركة الصحوة السنّية في أواسط العقد الأول من القرن الحالي، حين دعمت الولايات المتحدة تكوين ميليشيات سنّية للمساعدة على إلحاق الهزيمة بتنظيم القاعدة في العراق. بيد أن الفكرة الجديدة الخاصة بتشكيل حرس وطني عراقي جديد، واجهت العديد من العقبات وفشلت في التجسُّد على أرض الواقع.