المجتمعات الأصلية في المناطق المختلفة من العالم التي قطنت الغابات والجبال والسيوح والسهول والمناطق البرية والساحلية، بنت منظومة من القيم والتقاليد والثقافات المتعارف عليها التي صارت على مر الزمن نظاماً عرفياً يحدّد مبادئ والتزامات العقد الاجتماعي والسلوك البشري في العلاقة مع النظم البيئية، وجرى الاعتراف بها وتأكيدها في مواثيق المؤتمرات الدولية بشأن التنمية المستدامة ومبادئ الاتفاقية الدولية للتنوع الحيوي.
وتؤكد المادة (8) الصيانة في الوضع الطبيعي، من الاتفاقية على أن على كل طرف متعاقد، قدر الإمكان وحسب الاقتضاء وذلك وفقاً لما هو منصوص عليه في البند (ي) «القيام، رهناً بتشريعاته الوطنية، باحترام المعارف والابتكارات وممارسات المجتمعات الأصلية والمحلية التي تجسد أساليب الحياة التقليدية ذات الصلة بصيانة التنوع البيولوجي واستخدامه على نحو قابل للاستمرار، والحفاظ عليها وصونها وتشجيع تطبيقها على أوسع نطاق، بموافقة ومشاركة أصحاب هذه المعارف والابتكارات والممارسات، وتشجيع الاقتسام العادل للمنافع التي تعود من استخدام هذه المعارف والابتكارات والممارسات».
ومن المعروف أن هذه القيم تدخل في المرحلة المعاصرة ضمن منظومة المقومات الاستراتيجية لخطط العمل التنفيذي لبناء السلوك البيئي وإنجاز أهداف التنمية المستدامة.
البيئة البحرية معلم رئيس في مكونات النظام البيئي، وهي مصدر مهم لحياة ومعيشة المجتمعات الأصلية في البلدان المشاطئة للبحار في العالم التي اعتمدت في منظومة حياتها على ما تكتنزه نظمه الطبيعية من ثروات حيوية، وبنت منظومة متنوعة من المبادئ والالتزامات العرفية لصون نظامها البيئي ومكوّنها الأحيائي لتأمين متطلبات استدامة بقائها. ويمثل البحر ركناً مهماً في استراتيجية حياة المجتمعات الأصلية في بلادنا كمقوم معيشي واقتصادي وقيمة روحية واجتماعية، وكموقع مهم للراحة والاستجمام وممارسة الأنشطة الترفيهية والاجتماعية.
وبحكم علاقتنا الممتدة لما يقارب العشر سنوات في ممارسة الصيد البحري تمكنا من الاطلاع على حياة وثقافة وممارسات وسلوك أهل البحر في بلادنا، وللبحارة مبادئ متعارف عليها في ممارسة الصيد البحري، تمثل جزءًا من قيم السلوك البشري الرشيد في العلاقة مع مكونات المنظومة البيئية للبحر، والالتزام المسئول بصون نظافة ونقاء مياهه. ويمكن تبين ذلك في الممارسات الرشيدة التي يلتزم بها أهل البحر للحفاظ على الثروة السمكية، وتتمثل في الحرص على عدم صيد الأسماك الصغيرة واعتماد فتحات بمقاييس محددة في صناعة شبابيك الصيد والأدوات التقليدية للصيد المعروفة بـ «القراقير»، لاستبعاد الصيد الجائر للأسماك الصغيرة، والالتزام بمواسم للصيد والحفاظ على سلامة الفشوت والشعاب المرجانية، وترشيد استهلاك الحشائش البحرية للصيد وعدم رمي «القراقير» المتهالكة في المياه البحرية لحماية مواقع الصيد من التلوث الذي يؤدي إلى تدهورها وهجرة الأسماك. كما كانوا يؤكدون دائماً ويحرصون على تربية أبنائهم وزرع ثقافة السلوك الرشيد في العلاقة مع البحر.
البيئة الصحراوية هي أيضاً ثروة مهمة لحياة قطاع واسع من المجتمعات الأصلية في العديد من البلدان، وتتميز بخصوصيتها في المكوّن الروحي وفي وجدان وثقافة وتقاليد المجتمعات المحلية الأصلية، التي توارثت قيم ومفاهيم العلاقة الرشيدة في الاستثمار الموزون لما تكتنزه من موارد وخيرات. والباعث الفعلي لتلك العلاقة يتمثل في الارتباط التاريخي والحياتي لتلك المجتمعات بالبيئة البرية، حيث سجلت تلك العلاقة مآثر تاريخية ظلت محفوظة في ذاكرة ووجدان أهل البر، وتشكّل مؤشراً مهماً لطبيعة العلاقة مع ما يكتنزه نظام البيئة الصحراوية من ثروات مهمة لحياة المجتمعات الأصلية التي تقطن في تلك البيئات.
الباحث والإعلامي الجزائري عياش يحياوي سجّل في كتابه «خلوجبات» بعض هذه المواقف، حيث دوّن بعض أقوال الرواة في المنطقة الغربية في أبوظبي، ويقول الراوية علي زايد بن دودة المنصوري من منطقة السلع في أبوظبي أن «الصحراء كانت نظيفةً في رملها وهوائها، وكان البدوي يشعر بذلك ويلمسه في حياته اليومية، ولم تكن رائحة البترول ومشتقاته معروفة. قاع نظيف، القرص، يوم تسوي القرص وتشويه تشم ريحته من بعيد، الهوا صافي، ما في بترول، ما في آيل، ما في غبار، كان ابن آدم قوي، صاحي، يصيد أرنب ويشويها، ويطبخ عليها عيش، ويشرب لبن، والقاعة نظيفة، والقاعة ما فيها وسخ، ما فيها شي، البوش، الجمل الجمل، نضيعه ما ندري في الليل وين، بعيد مثل الشبهانة، نشم ريحته في الليل، ونعرف وين، ونعرف مكانه، الهوا نظيف».
الوعي الاجتماعي بضرورة الحفاظ على الثروة الطبيعية لصون ديموية بقاء المجتمعات المحلية القاطنة في المناطق البرية مؤشر مهم في بناء منظومة القيم والعادات والتقاليد والأعراف المجتمعية في العلاقة مع ما تكتنزه تلك المناطق من ثروات وخيرات حيوية. وكما بيّن لنا الشاعر بخيت المسافري من مدينة الذيد في الشارقة «أن المجتمعات البدوية كانت تنظم سير القوافل البرية وفق مسارات متعارف عليها يضمن عدم التأثير السلبي على الموارد الطبيعية في تلك المناطق، وتعليم الأجيال على عدم السير على المواقع العشبية التي هي ثروةٌ للرعي، كما أن لها نظاماً للرعي وطرقاً ومواسم محدّدة للتحطيب واستغلال ثروات وخيرات بيئات المناطق البرية. وفي السياق ذاته درجت المجتمعات المحلية على ممارسة أنشطتها المتنوعة التي تميّز بها مجتمع البادية في مناطق متعارف عليها وبشكل منظم يحول دون التعدّي على مكوّنات تلك المناطق، والامتثال للعادات والتقاليد الرشيدة في الحفاظ على نظافة بيئات المناطق البرية وجعلها مكاناً ملائماً للراحة والاستجمام».
إن هذه المفاهيم الخاصة بالعلاقة مع البيئة غدت منظومةً متكاملةً للعقد الاجتماعي في تنظيم العلاقة مع النظام البيئي في المناطق البرية.
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 4626 - الخميس 07 مايو 2015م الموافق 18 رجب 1436هـ