مصر وطنٌ ليست مثل كثيرٍ من الأوطان، فهي ارتبطت بالبشر كما ارتبط أهلها بها، وهي وطنٌ ارتبط بالتاريخ الإنساني لأكثر من سبعة آلاف سنة من التاريخ المكتوب والمدوّن، وآثاره باقية عبر العصور. وهي وطنٌ ارتبط بالدور الريادي والمتميّز في معظم فترات التاريخ، وإن عانت من التدهور والتخلف في بعض الأحيان، ثم ما تلبث أن تعود لمكانتها، فبعد عصر الأسر الستّ الفرعونية في الدولة القديمة حدثت فترة من الانهيار بعد ثورة جامحة وعاشت مصر مرحلة انتقال انتهت بقيام ما عُرف بالأسر الحاكمة في الدولة الوسطي. ولكن مصر واجهت غزو الهكسوس ثم ما لبثت أن ظهر كاموس ثم ابنه احمس اللذان قادا حملة عسكرية قوية طردت الهكسوس وأدت إلى اتساع مصر جغرافياً في بلد الشام وبظهور الرعامسة في الدولة الحديثة.
وتلا ذلك عصر من الانهيار والتدهور حتى غزاها الفرس والليبيون والنوبة واليونان والرومان، وبعضهم شيّد حضارة، وبعضهم عاش على الهامش، ولكن الجميع تمصّر روحاً وعقيدةً، واندمج في الهوية المصرية والديانة المصرية، ومن لم يفعل ذلك بصدق طُرد من حيث ما أتى أو تحلّلت غزوته وذابت في الهوية المصرية، كما حدث مع البطالمة والمماليك والعثمانيين والانجليز وغيرهم.
المصريون شعبٌ جامعٌ للأعراق، فقد عرفوا تاريخياً بأنهم من أصل حامي باعتبار أن حضارتهم ارتبطت بأفريقيا، القارة السمراء الجميلة التي تزخر بالموارد الطبيعية التي لم يستغلها شعبها الاستغلال الأمثل. وقد نهب المستعمرون كثيراً من ثرواتها، ومع ذلك ماتزال عامرةً بالخيرات التي يجري اكتشافها والاستفادة منها بمرور الزمن.
أما المصريون المحدثون منذ الفتح الإسلامي لمصر، فقد تعرّبوا، والواقع أن كثيراً من القبائل العربية هاجرت إلى مصر حتى قبل الإسلام. ومن هنا فإنه أصبح يطلق على المصريين كعرب أنها من أصل سامي، ولكن الحقيقة أن الشعب المصري عبر العصور وخصوصاً الحديثة منها، أصبحوا خليطاً متميزاً من أعراق متعددة، لأن مصر القديمة اتسمت بالتسامح والاعتدال، كما اتسمت بالروح الدينية. ولهذا اختار المصريون القدماء النبي يوسف (ع) ليكون أميناً على خزائنها، كما اختار المصريون الحديثون محمد علي ليكون حاكماً عليها بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر التي استمرت ثلاث سنوات تقريباً، على رغم أنها تركت أثراً كبيراً وتعد بداية عصر النهضة الحديثة.
أما مصر المعاصرة فيؤرّخ لها بعد الاستقلال الأول العام 1923، والاستقلال الثاني بعد ثورة يوليو 1952، وأقول إن الاستقلال الثالث جاء بعد ثورة 25 يناير 2011 وتصحيح مسيرتها بثورة 30 يونيو 2013.
والبعض يشبه عبدالفتاح السيسي بأحمس باعتباره ساهم إيجابياً في عودة مصر إلى روحها التقليدية الدينية المتسامحة مع مختلف الأديان والعقائد والأعراق، وهي ليست متطرفة في عقيدتها أو إقصائية في نظامها السياسي أو الاقتصادي، وشعبها يتسم بالعقلانية والترحيب بالأجانب والانفتاح على العالم الخارجي وعلى القوى الإقليمية. وعندما يلمس استغلال هذه القوى للروح المصرية المتسامحة والمعتدلة يثور الشعب ضدهم ويطردهم ويسعى لبناء دولة أو نظام سياسي جديد على أنقاضهم.
وقد عملت مصر عبر العصور على الدفاع عن المنطقة العربية في مواجهة الغزو والهجوم الوحشي الذي قاده المغول بقيادة هولاكو بعد أن دمّروا بغداد، كما واجهوا الصليبيين الأوروبيين وحملاتهم، وكان صلاح الدين الأيوبي حاكم مصر هو القائد المظفر وهو مسلم كردي.
ومصر لا تعرف التمييز ضد أحد، فإذا وجدته حسن السير والسمعة ولديه كفاءات وخبرات رحّبت به، كما رحّبت بالنبي يوسف وكليوباترة ومحمد علي وغيرهم. وإذا كان بخلاف ذلك تخلّت عنه وهاجمته وطردته كما فعلت مع الهكسوس والفرس والعثمانيين والانجليز. وهذا لا يعني أن هؤلاء جميعاً كانوا بلا حسنات، بل إن سيئاتهم فاقت حسناتهم، وهو ما يتعارض مع الروح والهوية المصرية. فالدولة العثمانية لم تحمِ فلسطين، وبذلت جهوداً محدودةً لحمايتها في مواجهة الطموحات الصهيونية، والتقسيم في سايكس بيكو العام 2016 الذي قسّم المنطقة العربية إلي دويلات وأصبحت بينها حدود، ولكن الثقافة المصرية لا تعترف بذلك، بل سمحت لجميع العرب من شتى البلاد بالسفر إليها ورحّبت بهم وبمساهماتهم. وكثير من الشوام والمغاربة وأهالي الجزيرة العربية جاءوا إلى مصر وساهموا في حضارتها، وهذا أتاح لهم الانتشار علي المستوى العربي، ولو مكثوا في بلادهم الأصلية فربما لم يتفوقوا ويُعرَفوا على نطاق واسع كما حدث عندما جاءوا مصر.
ومصر رحّبت باللاجئين السياسيين من مختلف الدول العربية والأفريقية، كما أتاحت للمفكرين والفنانين وأصحاب الإبداع تربة مناسبة للإبداع والمعيشة المريحة مقارنةً بالبلاد التي وفدوا منها، ولم يشعر أيٌّ منهم بالغربة بل شعر بأنه في أمن وأمان وترحيب ومودة. فقد عاش واشتهر فريد الأطرش وإسمهان وبيرم التونسي وبشارة تقلا وقويدر، وكلهم ساهموا بصورةٍ أو بأخرى في ثقافة مصر وتطورها وفنونها، ومازالت روح مصر قائمةً حتى هذه اللحظة.
من الجدير بالإشارة أن آل بيت النبي محمد (ص) جاءوا إلي مصر ووجدوا الترحاب غير المسبوق فيها. وتذكر الدراسات التاريخية أن السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب (رض) جاءت مع زوجها وأقاما في مصر، وعندما قرّر الزوج العودة إلى أرض الحجاز رفض المصريون السماح لها بالعودة وأصروا على التمسك بإقامتها في مصر، فاستجابت وتوفيت ولها ضريح مع أخيها الحسين بن علي، هما من أعظم الأضرحة في مصر. وغيرهم من السلالة الطاهرة لنبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ومن صحابته الكرام. وهناك بلدةٌ شهيرةٌ في مصر تسمى «البهنسة» تحتضن أضرحة العشرات بل المئات من هؤلاء، فضلاً عن القاهرة والمدن الكبرى في أرض الكنانة.
مصر ثورة 25 يناير2011 و30 يونيو 2013، واجهت محاولة اختطاف لنظامها وروحها المتسامحة فثارت، ولكن الحكام الجدد أصروا على تدمير الدولة وتحطيم مؤسساتها الوطنية قائلين إما أن نحكم مصر وإما أن نحرقها، وهم لا يعرفون أن مصر وُجدت قبلهم بل قبل الأديان وستبقى كذلك، ولو تعاملوا مع الشعب المصري بالحسنى وأظهروا مزاياهم وليس خداعهم، لرحّب بهم الشعب المصري وأحاطهم بالرعاية كما فعل مع النبي يوسف وصلاح الدين ومحمد علي وغيرهم.
ولكن الحمد لله أن مصر ثورة 30 يونيو 2013 التي بلغ عدد المشاركين فيها أكثر من ثلاثين مليون نسمة في ثورة سلمية لم تلوث بالدماء إلا لرد غائلة المعتدين الرافضين للسلام وغير المؤمنين بالعمل السياسي الحقيقي والصحيح الذي يتماشى مع الروح المصرية المتسامحة والمعتدلة. أما الأزهر الشريف فعلى رغم أن الفاطميين هم الذين بنوه إلا أن الشعب المصري وجدهم يغالون في سلوكياتهم وخرج من بينهم من أطلق على نفسه الحاكم بأمر الله، رغم أن الله لم يعطه عهداً بذلك ولم يبعثه رسولاً، بل جاء على رأس غزوة عسكرية وقام أسلافه الغزاة بتعمير مصر وبناء الأزهر الشريف الذي تحوّل إلى جامعة إسلامية شاملة لا تفرّق بين المسلمين بل توحّد فكرهم وترحّب بهم على اختلاف مذاهبهم. ومن هنا أصبح الأزهر رافع راية الإسلام المعتدل المتسامح الذي يعامل كافة الأديان والمذاهب على قدم المساواة بدرجة كبيرة إلا في حالة المغالاة والتطرف الذي يرفضه المصريون.
وفي زيارتي الجديدة لمصر وجدت الأمن والأمان عادا لمصر بدرجة كبيرة، وأن النهضة الحقيقية جارٍ التخطيط والتنفيذ لها. وهكذا عادت الروح الحقيقية إلى مصر العروبة والإسلام، وصدق القول المأثور «إن مصر هي كنانة الله في أرضه من أرادها بسوء قصمه الله»، أي كسره ودمّره، ومن أرادها بخير ساعده وحماه، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» (سورة يوسف، 99). فهي أرض الأمن والأمان، وهي الوطن المعتدل المتسامح، وهي وطنٌ يعيش في قلوب ونفوس أبنائه وبناته.
وحقاً قال بابا الكنيسة القبطية الأنبا شنودة الراحل: «مصر وطنٌ يعيش فينا وليست وطناً نعيش فيه». كما قال البابا الحالي تواضروس: «لا يهم أن يدمّر المتطرفون مئات الكنائس ولكن يهم ألا يدمّروا الإنسان المصري أياً كانت عقيدته أو مذهبه، فالنفس البشرية هي كيان الله وملعونٌ من هدمها». وحقاً قال القرآن الكريم: «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» (المائدة، 32).
وختاماً نقول حمى الله مصر وشعبها، وجعلها قلعةً للعرب والمسلمين، بل وجميع شعوب الأرض المحبة للسلام والأمن والأمان.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4621 - السبت 02 مايو 2015م الموافق 13 رجب 1436هـ