لو لم يفز الرئيس الأميركي باراك أوباما بجائزة نوبل للسلام في مستهل توليه الرئاسة، ولم يكن في رصيده على صعيد سياسة بلاده الخارجية سوى تطبيع العلاقات مع كوبا وإيران فقط، لكان هذا الإنجاز يكفيه فخراً ويبرّر نيله جائزة نوبل القادمة بالشراكة مع الرئيسين الكوبي راؤول كاسترو والإيراني حسن روحاني، وذلك إذا ما نظرنا بتمعنٍ إلى أهمية الدور الاستثنائي التاريخي الذي قام به أوباما في إنهاء الحصار بكل أشكاله الاقتصادية والعلمية والطبية والعسكرية المضروب على شعبي كلا البلدين: كوبا الذي استمر حصارها على مدى نصف قرن، والتي كادت أزمة نصب السوفيات الصواريخ على أراضيها العام 1962، أن تفضي إلى حرب نووية عالمية حبس العالم أنفاسه حينها؛ أما إيران فقد استمر الحصار المضروب عليها أكثر من 35 عاماً وكاد أن ينتهي إلى مواجهةٍ عسكريةٍ، ويعرّض خليجنا العربي إلى محرقة كبرى لا يعلم حجم أهوالها هذه المرة سوى الله، إثر سلسلة من التهديدات الأميركية والإسرائيلية المتعاقبة بضرب منشآتها النووية والاستراتيجية.
ويتأكد هذا الاستحقاق إذا ما انتهى إطار التفاهم الموقّع مؤخراً بين طهران والدول الخمس زائد واحد (الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا) في لوزان بسويسرا إلى توقيع اتفاق نهائي مع نهاية يونيو/ حزيران المقبل.
ولعل المغزى الكبير لخطوات التطبيع الأميركي مع كوبا وإيران، والذي يهمنا نحن العرب، يتبدى فيما أبدته قيادتا كوبا وإيران من قدرٍ في فن الأداء التفاوضي مثير للإعجاب في الندية في المفاوضات مع واشنطن، وخصوصاً الأداء الإيراني. هذا على الرغم من اختلال ميزان القوى بين هذين البلدين الناميين والولايات المتحدة من جميع النواحي العسكرية والاقتصادية والعلمية والدبلوماسية وخلافها.
والغريب أنه على الرغم من سيل التحليلات والتعليقات السياسية العربية المتدفق، والذي ما انفك متواصلاً حول اتفاق لوزان الأولي، إلا أن لا أحد من المحللين والكتّاب العرب توقف عند هذا المغزى لجهة مقارنته باتفاقي «كامب ديفيد» العام 1978 بين مصر و»إسرائيل»، ثم بين منظمة التحرير الفلسطينية العام 1993، واللذين خرجت منهما «إسرائيل» بنصيب الأسد، بفضل ما قدّم الطرفان المصري والفلسطيني لها على طاولة المفاوضات من تنازلات هائلة كارثية على طبق من ذهب، ولم ينالا في المقابل سوى قصعةٍ من الفتات.
كما يمكننا القول إن ثمة مغزى ثانياً للإتفاق لجهة أهميته القصوى في تخفيف بؤر التوتر التي يشهدها عالمنا الآن، وتهدّد السلم العالمي منذ انهيار النظام العالمي الثنائي القطبية قبل ربع قرن مضى. ويمكننا بوجهٍ عام استعراض دروس ودلالات اتفاق «لوزان» العامة، وبضمنها على وجه الخصوص تلك الجديرة بالمقارنة مع اتفاق «كامب ديفيد» بين مصر و»إسرائيل» في السطور التالية.
أولاً: بينما تسنى لإيران أن تفاوض الولايات المتحدة ضمن مجموعة (خمسة زائد واحد) مستفيدةً بذلك من موقفي روسيا والصين القريبين إليها إلى حدٍ ما، ومن بعض التناقضات بين الدول الغربية في المجموعة ذاتها، فإن الرئيس المصري الأسبق أنور السادات ذهب إلى كامب ديفيد العام 1978 خالي الوفاض، مجرّداً من أية أوراق ضغط في التفاوض مع «إسرائيل»، ومراهناً بالكامل على الولايات المتحدة، حيث اعتبرها وحدها التي تملك 99% من أوراق اللعبة. وحيث جرت المفاوضات تحت رعاية الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر الذي لم يخفِ ثوابت انحياز بلاده الكامل لـ «إسرائيل» ودعمها بشتى السُبل.
ثانياً: في حين استمرت مفاوضات كامب ديفيد 12 يوماً فقط، مسفرةً عن تنازلات خطيرة بانتقاص السيادة المصرية العسكرية على سيناء، وفرض التطبيع الكامل على مصر وإخراجها من حلبة الصراع العربي - الاسرائيلي، ومنح حكم ذاتي هلامي غير ملزم بانسحاب «إسرائيل» من أراضي 1967، وإعطاء الشعب الفلسطيني حق تقرير مصيره، فإن مفاوضات إيران مع خمسة زائد واحد في لوزان وإن استمرت ثمانية أيام، إلا أنها كانت متواصلة الليل بالنهار تقريباً، وكانت حصيلة ما يقرب من 12 سنة متقطعة من المفاوضات غير المباشرة. ثم تكثفت أخيراً بمفاوضات 18 شهراً متقطعة مع واشنطن ضمن مجموعة (الخمسة زائد واحد)، ثم تكللت بمفاوضات لوزان الأخيرة التي شدّد ودقّق فيها الوفد الإيراني على مدلول بنود اتفاق الإطار، حرفاً حرفاً، وسطراً سطراً، بشهادة مختلف المراقبين.
ثالثاً: أظهرت المفاوضات جدوى التعددية الحقيقية داخل النظام الواحد، ديمقراطياً أم شمولياً، في لعبة المفاوضات الدولية. وهذا ما برعت فيه طهران أمام المجتمع الدولي باظهار ما تواجهه من ضغوط داخلية مع المحافظين المتشددين لضبط تنازلاتها، وكذلك واشنطن حيث كان لمعارضة الجمهوريين أثرها في ضبط تنازلاتها مع إيران، في حين ذهب السادات خالي الوفاض من دون تعددية حقيقية داخل نظامه لضبط تنازلاته، ولم يكن مبالياً ولا قادراً على كسب العرب لتكوين وفد عربي موحّد، بعدما أجهضت «إسرائيل» وواشنطن مؤتمر جنيف للسلام العام 1973 غداة حرب أكتوبر تحت مظلة الأمم المتحدة، وبحضور القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
رابعاً: بعيداً عن مماحكات التحليلات الضيقة التي مازالت تتوالى حول حسابات الربح والخسارة لكلا الطرفين الرئيسيين في التفاوض، فإن الرابح الأكبر هو شعوب العالم وخصوصاً شعوب منطقتنا العربية وعلى الأخص الخليجية منها، لجهة ما تعلقه شعوبها من آمال عريضة على الاتفاق لنزع فتيل التوتر الأخطر راهناً في العالم، وإنقاذها من حرب خليجية ثالثة مدمرة أكثر هلاكاً عن سابقتيها، وإرساء دعائم الأمن والسلام فيها، ولا سيما إذا ما تحلّى الطرفان الأميركي والإيراني خلال الشهور الثلاثة المحدّدة للوصول إلى التسوية النهائية بإرادة أقوى للتغلب على مجمل العقبات المتبقية والتي يهوّل منها أعداء وصول الطرفين إلى تسوية، سواء كانوا في أميركا نفسها، أم لدى حلفائها الغربيين، أم في إيران ومنطقتنا العربية. وبالتالي يمكننا القول إن نتائج لوزان خرجت إلى حد كبير يقترب من مقولة لا غالب ولا مغلوب.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4616 - الإثنين 27 أبريل 2015م الموافق 08 رجب 1436هـ