تعود بدايات الدولة الوطنية العربية المعاصرة، إلى فترة ما بين الحربين الكونيتين. لكن مفهوم الأمن القومي العربي، ارتبط بتأسيس جامعة الدول العربية في 22 مارس/ آذار 1945، الذي ضم الدول العربية المستقلة آنذاك. ولاحقاً تحددت مهمة الأمن القومي، بعد ميثاق الأمن القومي العربي ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، في صيانة استقلال الدول الأعضاء بالجامعة، والعمل على إنجاز استقلال البلدان العربية التي لم تزل في حينه ترزح تحت نير الاستعمار، ومنع الحركة الصهيونية من اكتساب فلسطين، وتحرير بقية الأراضي العربية المغتصبة. وكانت مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية.
تأثرت الكيانات الوطنية المعاصرة، في تشكيل هياكلها، ونظمها السياسية، بالمناخات الدولية والإقليمية، وأنماط الحكم، والإيديولوجيات التي سادت، بعد انقسام العالم إلى معسكرين، شرقي وغربي، وقد شمل ذلك الانقسام في النظرة إلى العالم، وفي شكل التعاطي مع مفاهيم التنمية والحرية والعدل والتطور الاجتماعي .
كان من أهم معالم النظام العربي الرسمي، أنه نشأ قبل أو مع بداية اندلاع الحرب الباردة، والثنائية القطبية، وفي ظل تقاسم النفوذ بين العمالقة الكبار، ومع ترصين ملحوظ في العلاقات الدولية. فكان أن انقسمت الأمة، في شكل نظمها وسياساتها، تبعاً لمواقفها ولخياراتها السياسية والاجتماعية، تجاه الطريقين: الرأسمالي والاشتراكي .
وخلال تلك الحقبة، وباستثناءات محدودة، غلبت الهوية الوطنية، وتراجعت الهويات الصغرى لمصلحتها. وعكس ذلك نفسه على الصراعات السياسية، التي سادت في البلدان العربية، أثناء تلك الحقبة، سواء داخل البلد الواحد، أو في العلاقات بين بلد وآخر، حيث لم تعد لها علاقة بالهويات الصغرى، بل الخلافات تحتدم على مشاريع سياسية واجتماعية، بما منحها أبعاداً حضارية.
حمل النظام العربي قواسم مشتركة، أجمعت عليها الحكومات والشعوب العربية. من أهمها النظرة للمشروع الصهيوني، باعتباره تهديداً مباشراً للأمن العربي القومي، ومعوقاً من معوقات النهضة العربية. وكان هناك تضامن جماعي عربي، يبرز بقوة أثناء المحن والشدائد، وتوق نحو مشروع وحدوي عربي، وإن لم يتفق على حدوده وشكله، وأسلوب تحققه.
انتهاء الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي، وتفرد الولايات المتحدة على عرش الهيمنة العالمية. وعلى الرغم من أن ذلك أدى لهزيمة نظام الحزب الواحد، لكنه لم يكن نهاية للتاريخ. وكان لذلك إسقاطاته، حيث أعيد الاعتبار في البلدان العربية، للتوجهات الليبرالية.
سادت حقبة جديدة في التاريخ، تميّزت بانتهاج السياسة البراغماتية، بديلاً عن الإيديولوجيات، على الرغم من أن الرأسمالية لها إنجيلها الخاص، ممثلاً في كتاب آدم سميث «ثروة الشعوب»، ومن أعقبوه من منظرين واقتصاديين، ممن أسهموا في تجديد الفكر الرأسمالي وأدواته. إن ما حدث لم يكن في حقيقته هزيمة لإيديولوجيات، بل هزيمة لنظم سياسية، لم تتمكن من تجديد أدواتها، لتكون قادرةً على التنافس مع الغرب، الذي تمكن من تحقيق قفزات رئيسية في الممارسة والفكر.
وبالنسبة للعرب، كانت إسقاطات المتغيرات العالمية، أكثر قسوة وضراوة. فعلاقة بعضنا بالسوفيات والكتلة الاشتراكية، لم تكن مجرد ارتباط بأفكار، بل بمصالح وتحالفات استراتيجية. والأصعب في ذلك، أن حقبة نهاية الحرب الباردة، أخذت مكانها في ظل تخلخل للنظام العربي، تسببت فيه هزيمة يونيو/حزيران 1967، وما أعقبها من الدخول في نفق التسويات، التي انتهت بتوقيع اتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر والكيان الصهيوني في نهاية السبعينيات. وتلازم هذا السقوط، بانهيارات عربية كبرى، منذ مطالع التسعينيات.
ولأن الحياة لا تقبل الفراغ، والأمم حين تتعرّض لتهديد في وجودها وأقدارها، تلجأ إلى الحيل الدفاعية، لتحقيق توازنها النفسي. فكان بروز التيارات المتطرفة، بعد فشل النخب العربية، في تحقيق حلم التحرر والوحدة والحرية والعدالة. وينبغي هنا التمييز بين الإيديولوجيا، كرؤية ضرورية للكون، وبين الدوغما، حيث يسود منطق الفرقة الناجية، التي لا تسلم للآخرين، بالحق في أن يكون لهم رؤاهم وعقائدهم.
المعضلة لم تكن في وجود الإيديولوجيات، التي هي حاجة إنسانية لليقين، وإنما في تغوّل روح العصبية، وبلوغها مستوى الكراهية، لما عداها من الإيديولوجيات، نتج عنه رفع السلاح، وانتقال ذلك إلى الصراع بين أبناء الدين الواحد والوطن الواحد. وأخطر ما في هذه الظاهرة، إفرازاتها الطائفية، واستهدافها للكيانات الوطنية، وتهديدها للسلم الاجتماعي، وتغليبها للهويات الجزئية، على حساب الهوية الجامعة. وقد أسهمت تيارات التطرف في تفتيت العراق وليبيا وسورية واليمن، والقائمة لن تنتهي عند هذا الحد، إذا لم نتمكن من وضع حدٍ لحالة الانهيار.
إن مواجهة المخاطر التي تتعرّض لها الأمة تقتضي تصليب الأمن العربي، في صد مخاطر الإرهاب، ومواجهة الاختراقات الدولية والإقليمية، وتحديد سلم الأولويات في هذه المواجهة، وإعادة الاعتبار لميثاق الأمن القومي العربي الجماعي ومعاهدة الدفاع العربي المشترك.
تحديد سلم الأولويات ينبغي أن ينطلق من وعي طبيعة المشروع الصهيوني ومخاطره على الأمن العربي. فقد عهد للكيان الغاصب أن يحول دون وحدة الأمة وتقدمها، ويكون عازلاً بين مشرقها ومغربها. وكان على العرب مقاومة هذا المشروع، حتى يسود السلام .
كما ينبغي الوعي بأن الاحتلال الاستيطاني ليس شيئاً ساكناً، يمكن تحييده والانتظار حتى تتوافر ظروف مواتية لمصلحة الأمة تتيح لها المطالبة بحقوقها. هناك مناطق عربية تضم ملايين من البشر، من أبناء جلدتنا، لم يكتف المحتل بالاستيلاء على الأرض، بل سعى إلى إلغاء هويتها العربية، من خلال تشجيع مستوطنين من المركز للهجرة إلى الأراضي المحتلة. وبالقدر الذي يتقادم فيه الاحتلال، بالقدر الذي يتمكن فيه المحتل من تدمير الهوية القومية، من خلال إغراق المناطق المحتلة بالمستوطنين وإضعاف مقاومة الشعب المحتل لمغتصبي أرضه. ولن يكون بالإمكان مستقبلاً الحديث عن تحرير لتلك الأراضي بعد مسخ هويتها، والقضاء على مقاومتها... ومن هنا تصبح مهمة الأمن القومي العربي، التصدي بقوة لكل مشاريع الاستيطان. وشرط انتصاره في معركته هو الوعي والقدرة والإرادة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4612 - الخميس 23 أبريل 2015م الموافق 04 رجب 1436هـ