لم أكن أتصور أن زيارتي للهند بقصد العلاج، بعد أن تركتها منذ ما يزيد على ثلاثين سنة ستترك هذا الانطباع السلبي عن حقيقة الأوضاع في الهند. وقد وصلت لهذه النتيجة بعد مشاهداتي الميدانية، ومقارنة بحقيقة الأوضاع في الماضي بالأوضاع الحالية. الهند كما عرفت ببلد العجائب والتناقضات، وتعتبر من أعرق دول العالم تطبيقا للنظام الديمقراطي البرلماني. عرفت الهند الحضارة منذ الألف الثالث قبل الميلاد. فقد سيطر الآريون على البلاد، وظهرت البوذية في القرن السادس ق.م وبعد غزو «الأسكندر الأكبر» للهند العام 326 ق.م، أصبح المذهب الهندوسي دين الامبراطورية. بدأ الفتح الإسلامي في القرن الميلادي الحادي عشر على يد محمود الغزنوي، فتمت إقامة سلطة دلهي العام 1206م. غزا المغول الجزء الشمالي من الهند العام 1221 بقيادة جنكيز خان، فاستمرت سيطرتهم على البلاد حتى القرن التاسع عشر تحت حكم اسلامي مغولي.
بدأت اتصالات الهند بأوروبا مع وصول «فاسكودي جاما» إليها العام 1498. حصلت شركة الهند الشرقية البريطانية العام 1600 على امتياز للعمل في الهند، تمركز بعدها البريطانيون في البلاد منذ العام 1798 وحتى ألغيت سيطرة الشركة فحكمت الهند حكما مباشرا العام 1858. أسس نهرو وبعض الوطنيين الهنود من هندوس ومسلمين «المؤتمر الوطني الهندي» العام 1884 بهدف الحصول على الحكم الذاتي. وبرز الزعيم الهندي (غاندي) الذي حاول نيل استقلال بلاده بسياسة اللاعنف. وفي العام 1947 منحت بريطانيا الحكم الذاتي للهند وسيلان وباكستان. أعلنت الهند إقامة جمهورية ذات سيادة سنة 1950. تولت أنديرا غاندي رئاسة الوزراء العام 1966، ثم اغتيلت على يد أحد من طائفة السيخ العام 1984، يحكم الهند الآن رئيس الحزب الهندوسي اليميني فاجبيي. مساحتها: 3,287,263 كلم2. عدد سكانها بلغ حوالي مليار نسمة. أهم مدنها: نيودلهي، مومبي الكبرى، كلكتا، مدراس، أحمد آباد، سورات. دياناتها: 82 في المئة هندوس، 12 في المئة مسلمون، 2 في المئة مسيحيون، 2 في المئة سيخ، 1 في المئة بوذيون، وآخرون. عملتها: الروبية. متوسط دخل الفرد: 400 دولار.
بدخل قدره 400 دولار للفرد الواحد تعتبر الهند من أفقر دول العالم، وهذا سبب استمرار تفاقم مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هذا الواقع المؤلم أوجد رغبة ونزعة في النزوح والهجرة من الهند إلى أي بلد عالمي يجدون فيه لقمة العيش.
المشكلات الاقتصادية تنهك كاهل المواطن الهندي البسيط، على سبيل المثال ازدياد نسبة نمو عدد السكان بتخطي تعداد المليار نسمة انعكس على مستوى دخل الفرد السنوي الذي لم يفارق مقدار الـ 400 دولار، وهذا أقل بكثير من الهدف المرسوم من البنك الدولي الذي يطالب دول العالم الثالث بتحقيق الحد الأدنى من نسبة دخل الفرد ألا وهي 3000 دولار للفرد الواحد سنويا. خطوة رئيس وزراء الحكومة الهندية اليمينية بالانفتاح على دول العالم اقتصاديا، ودخول عالم الاستثمارات العالمية والسماح لقوى العولمة بالعمل في الهند، أوجد واقعا اقتصاديا جديدا له الكثير من السلبيات وقليل من الإيجابيات. بمجرد الاستجابة لتيار العولمة وشروطه بالسماح للاستثمارات العالمية من تنفيذ مشروعات في الهند وفقا لمعاييرها الاقتصادية، ربما يكون كافيا للتقارب الهندي الأميركي وتقوية علاقة الهند بـ «إسرائيل». الهند تشهد الآن هجمة استثمارية أميركية وصهيونية لا مثيل لها تتمثل في السيطرة على وسائل الانتاج من قطاع الاتصالات المتقدمة إلى قطاع الالكترونيات والميكروتشيب إلى قطاع السيارات حتى الابرة. التغلل الأميركي والصهيوني والغربي في الاقتصاد الهندي بدا واضحا في قطاع انتاج الميكروتشيب، فقد انشأت الشركات العالمية الكبرى وخصوصا مايكروسوفت مدنا نموذجية متخصصة في هذه الصناعات على شاكلة السليكون فالي في كاليفورنيا، في مدن هندية رئيسية كبنغلور وحيدر آباد. التنافس العالمي على إنشاء صناعة تجميع السيارات على كل من الهند والصين بسبب قدرة البلدين الاستهلاكية الهائلة آخذين في الاعتبار حجم السكان ومقدار نموه، أوجد نموا جديا لتلك الصناعات على حساب الصناعات الهندية الوطنية. فبعد الاستثمارات الكورية في مجال تجميع السيارات ازداد حجم التنافس بين أوروبا واليابان التي استطاعت أخيرا الفوز بأكبر مصنع لتجميع سيارات تويوتا الشهيرة في العالم. أما أميركا فقد حظيت بنصيب الأسد بإنشاء أكبر مصنع لتجميع سيارات شفروليه في العالم. الأمر لم يتوقف على تلك الصناعات بل تعداه إلى فوز شركات أميركية برأس مال صهيوني بإنشاء خدمات الهاتف الجوال في الهند، واستطاعت شركتا «أورانج» و«اير تيل» الفوز بتلك العقود. كما سيطرت المحطات الفضائية الأميركية على شركة «الكيبل» الهندي فتصدرت شركة «ايش بي اوه» تلك القنوات. ووصل عدد القنوات الفضائية العالمية المشاركة حوالي 40 قناة فضائية تتصدرها قناة «ستار تي في» التي يملكها الاسترالي روبرت مردوخ.
مشكلة الاقتصاد الهندي انه دخل معركة العولمة من دون تخبط ودراسة، الهند لديها أعلى نسبة عالمية من البطالة بسبب تسريح الشركات العالمية لنسبة كبيرة من العمال لاحلال الآلة والتكنولوجيا الحديثة محلهم. خطة انديرا غاندي الاقتصادية تبنت النظام الاشتراكي كحل وحيد ومخرج لمشكلات الهند الاقتصادية لتخفيف حال الفقر المدقع الذي يعيشه قطاع كبير من الشعب الهندي، فقد اممت المصانع والشركات الكبرى، ووزعت الاراضي على الفلاحين ووضعت خطة لزيادة الانتاج المحلي وسياسة الاعتماد على النفس، وتقليص مشكلة اطراد الزيادة في اعداد السكان وصلت بعض الاحيان الى الإخصاء. فترة حكم انديرا غاندي شهدت اهتماما ملحوظا ببند هياكل البنية التحتية للبلد.
اما الآن فان شوارع المدن الكبرى في الهند تشهد اهمالا فضيعا، ولا توجد بنية تحتية بسبب توقف عمليات الصيانة والتعمير الحكومي، لذلك فان فوضى البناء ظاهرة طبيعية لغياب قوانين الاعمار والصيانة وتفشي الفساد الاداري. المباني والطرق والمنشآت الحكومية لم تشهد اي تطوير منذ ثلاثين سنة. أعداد المشردين يزداد بسبب الغلاء الفاحش وارتفاع قيمة السلع والخدمات بالنسبة إلى مستوى الدخل، الدكتور والعالم والاستاذ الجامعي يحصل على مرتب شهري يصل الى 60 دينارا، والمهن الأقل الى 40 دينارا والعامل الى 15 دينارا، اذا هذه المشكلات الاقتصادية لن تستطيع تحقيق مقدار نمو على رغم التقدم الصناعي والعلمي الحالي ولن يكون للهند نصيب بين دول الرفاهية في العالم.
المشكلات الاجتماعية ناتجة عن الفقر والجهل، فارتفاع مستوى الفقر والجهل يفسح المجال للسياسيين لتغذية الاحقاد القديمة بين الديانات المتعددة في الهند واستمرار حال العداء بين الديانة الاسلامية (300 مليون) والديانة الهندوسية (حوالي 600 مليون) هذه المشكلات أفقدت المواطن الهندي العادي الشعور بالوطنية والانتماء للوطن، حتى اصبح الهندي ينتمي لطائفته بدلا من وطنه. عندما كنت ادرس في الهند منذ ما يزيد على 30 سنة لم اجد تلك الكراهية متفشية بين الطائفتين حتى كنت أتذكر مشاركة الهندوس والمسيحيين في الاحتفال بالمناسبات الاسلامية.
والدليل على ذلك مشاركة جميع الطوائف في احتفالات شارع محمد علي بوسط مومبي في شهر رمضان، والجلوس على موائد الافطار المجانية الممتدة على طول الشارع، والمشاركة في المهرجانات الرمضانية الليلية عندما يمتلئ الشارع بالرواد والحلويات والاضواء والصخب، المشاركة ايضا في مناسبات اسلامية اخرى كالاعياد واحتفالات شهر محرم وغيرها من المناسبات الدينية. ومن العادات التي تشعر بانها مازالت تمارس حاليا كمثال على التسامح الديني، الايمان بقدرة عالم الدين المسلم الولي الحاج علي الذي يقصد مسجده المسيحيون والمسلمون والهندوس الى درجة ان تبرع سيخ ببناء مسجده الذي كان وسط البحر ومده بجسر يربطه باليابسة حتى يقصده الجميع. أهل مومبي نسجوا الكثير من الخرافات عن قدرة الحاج على الشفاء من الامراض. يقولون ان رئيس وزراء الهند الهندوسي المتعصب عندما اصابة مرض عضال قصدت اخته مسجد الحاج علي للدعاء له بالشفاء والتنعم ببركاته، ويقال انه اشفي ببركات الوالي الصالح.
ام المشكلات الاجتماعية في نظري تكمن في عدم تمكن الحكومة الهندية من السيطرة على انتشار الامراض المستعصية لعدم وجود الامكانات وخلو موازنة الدولة افقد القدرة على معالجة هذه الامراض، كما ان عدم توافر العدد الكافي للمستشفيات والاسرة للمرضى، وصعوبة الحصول على الدواء المناسب ساهم في تعقيد الامر. الأغرب من ذلك ان الهند تحتل المركز الاول في العالم في عدد المصابين وحاملي مرض الايدز إذ بلغ عددهم قرابة الـ 40 مليون شخص، ومقارنة بالصين فقد بلغ عدد المصابين بالايدز لديها قرابة المليون شخص على رغم تفوقها على الهند في عدد السكان (فوق المليار نسمة).
انتشار المرض سببه عدم قيام السلطات بحملات توعية لتجنب المرض وعدم استخدام اساليب حديثة واقية لممارسة الجنس، كما ان الجهل والفقر في المناطق المعدومة اجتماعيا التي لا يدخلها مسئول حكومي تعتبر مرتعا لانتشار الامراض الفتاكة بسبب عدم اهتمام السلطة بتقديم خدمات صحية وتطبيق اساليب العلاج الحديثة.
الفرد الهندي لا تحميه الدولة اجتماعيا، فقط الميسورون منهم يستطيعون تلقي العلاج المكلف أو الاشتراك في شركات التأمين الصحية، ولا يوجد ضمان اجتماعي لحماية الفرد سواء من المرض أو فقد عمله أو تعرضه لحادثة. جمعيات المجتمع المدني يسيطر عليها السياسيون او زعماء الطوائف أو الاستغلاليون لذلك فان الجمعيات لا تقوم بدورها كاملا في خدمة المجتمع. المشكلات الاجتماعية ربما تكمن في التوزيع الطبقي للديانة الهندوسية القائمة على اقصاء الطبقات الدنيا في الديانة الهندوسية. فمازالت طبقة البراهما هي المسيطرة على المجتمع الهندي ومازالت طبقة المنبوذين المعروفين باسم درايفيدنس هي التي تقوم بخدمة الطبقات العليا الأرقى، ومستعدة للتضحية بأرواحها من اجلهم. كما ان العادات الغذائية الهندوسية سبب آخر في تفشي الامراض وضعف البنية الجسمانية للفرد لعدم حصوله على ما يكفي من البروتين بسبب اكله للطعام النباتي.
المشكلات السياسية وحال عدم الاستقرار السياسي في المشهد السياسي الهندي، تزداد سواء يوما بعد يوم، وخصوصا بعد وصول الحكومة الهندوسية اليمينية الى سدة الحكم. المؤتمر الهندي تراجع بعد مقتل راجيف غاندي وخلفته على نمط حكم الاسر في آسيا سونيا غادي الايطالية الاصل، اصرار سونيا غاندي على رئاسة الحزب جعل كثيرا من الهندوس ينفرون من الحزب الذي كان يعتبر اثناء فترة حكم نهرو واندبرا غاندي حزبا وطنيا لجميع الاطياف السياسية والطوائف الهندية. فترة حكم انديرا غاندي تعتبر العصر الذهبي للسياسة الهندية العالمية.
فقد تسابقت الوفود على حضور المؤتمرات والندوات العالمية التي تعقد في الهند، وكانت الهند آنذاك زعيمة للعالم الثالث وسياستها مؤثرة في العلاقات الدولية، وتواجه الدول الكبرى مع شريكيها ناصر تيتو الذين استطاعوا قيادة دول عدم الانحياز ومجموعة السبعة والسبعين التي تمثل دول الجنوب، لكن الدور السياسي الهندي العالمي تقلص الآن وانحصر في مشكلات المواجهة مع باكستان، وهدر اموال الدولتين في سباق محموم للتسلح النووي، مع ان الدولتين من اكثر الدول احتياجا لتلك الاموال لتحقيق قدر معقول من التنمية.
التخبط في المسار السياسي الهندي بدا واضحا في عدم تمكن الحكومة من السيطرة على العنف الطائفي بين الهندوس والمسلمين وازدياد حوادث التفجيرات القاتلة وتضاعف العمليات الانتقامية. التخبط الثاني في السياسة الخارجية الهندية يتمثل في عدم استقرار التحالفات الهندية مع دول العالم لعدم وجود مرتكزات سياسية ثابتة، فتارة تقوم ببناء علاقات حميمة مع عدوها اللدود الصين الى تغيير الاتجاه للتحالف مع الاميركان والاسرائيليين لكسب تعاطف هذه الدول للموقف الهندي من المجاهدين في كشمير التي تعتبرهم الهند واميركا «ارهابيين اسلاميين» مرتبطين بطالبان والقاعدة، ما دفع اميركا و«اسرائيل» الى تزويد الهند باحدث الاسلحة المتطورة لمحاربة باكستان. العلاقات الهندية الآسيوية هي الاخرى تشهد حاليا ضعفا ملحوظا بعد ان كانت نشطة في منظمة بلدان جنوب آسيا ومشاركة في اجتماعات الاسيان ومنظمة آسيا والباسفيك.
اما العلاقات الهندية العربية، فقد شهدت تراجعا ملحوظا بعد التقارب الاسرائيلي الهندي. ولم يقم مسئول هندي بزيارة الدول العربية ما عدا سورية كما ان تأييد الهند للقضية الفلسطينية تراجع هو الآخر فانخفضت نسبة الزيارات بين الجانبين خصوصا بعد زيارة شارون للهند، وانعكس ذلك في تغير التصويت الهندي في الامم المتحدة التي طالما كانت تصوت لصالح القضايا العربية.
السؤال كيف تسطيع الهند مواجهة تلك المشكلات المعقدة التي ربما تعصف باية حكومة هندية جديدة مهما كان اتجاهها السياسي والديني والمذهبي؟ لا شك في ان تذمر افراد الشعب الهندي من اوضاعهم المأسوية، قد ينتج عنه تفجر ثورة اجتماعية وسياسية مكبوتة. ويبقى الوضع الهندي تحت المجهر خاضعا لتحليل السياسيين حتى ظهور تغيير ملموس في المنهج والاسلوب والمذهب السياسي
العدد 461 - الأربعاء 10 ديسمبر 2003م الموافق 15 شوال 1424هـ