منذ أكثر من شهر والقوات الأميركية صارت تبالغ في ردها على العمليات التي تستهدفها، وأخذت تستعير الأساليب العسكرية الإسرائيلية لتطبيقها ضد الأهداف والمواقع وحتى البلدات المشتبه فيها. فالكثير من القرى تم تطويقها بالأسلاك الشائكة وتم عزلها ومنع الدخول اليها والخروج منها إلا عبر حواجز عسكرية وبطاقات هوية خاصة مكتوبة باللغة الانجليزية تم تسليمها الى سكان هذه القرى. وقد تواصلت حملات الدهم بعنف على منازل بحثا عن شبان او رجال مشتبه فيهم كانت تنتهي باقتياد عدد من اقرباء المشتبه فيهم بما فيهم النساء والابناء والبنات بهدف اجبار الرجال المطلوبين على تسليم انفسهم. بل ان الكثير من المنازل التي تم مداهمتها لأكثر من مرة بحثا عن مقاومين تم هدمها عبر نسفها.
وتخلل ذلك كله حملات قصف بصواريخ موجهة وبطائرات مقاتلة من نوع (اف 15) و(اف 16) فضلا عن هجمات بالمروحيات بهدف استهداف مجمعات سكانية وبلدات وقرى في المثلث السني شملت حتى العاصمة بغداد. وتضاعف أعداد المحتجزين الذين تم اقتيادهم من قبل القوات الأميركية خلال الحملة الاخيرة التي بدأت مطلع الشهر الماضي ومازالت متواصلة؛ حتى ان التقديرات تتحدث ان ما تم احتجازه واعتقاله خلال الشهر الاخير يبلغ ضعف ما تم اعتقاله واحتجازه في هذه المناطق من قبل هذه القوات خلال الاشهر السابقة.
ويقول الضباط الأميركيون المشرفون على تنفيذ هذه الأساليب، انهم يتوخون الحذر للوصول الى أهدافهم، وهم يختارون افضل الطرق حتى لا يصيبوا أبرياء بأذى. ولكن العراقيين في هذه المناطق يؤكدون في رواياتهم لما باتوا يواجهونه ان العسكريين الأميركيين يتصرفون بفظاظة وفظاعة تذكر بتلك الصور التي كانت تعرضها شاشات التلفزة عن وحشية الأساليب التي يمارسها الجيش الإسرائيلي في مواجهة من يصنفهم بـ «الإرهابيين».
وتؤكد معطيات الحملة الاخيرة تلك المعلومات التي اشارت الى خبرة اسرائيلية في تنفيذ هذه الحملة من خلال مشاركة ضباط اسرائيليين تخصصوا في حرب المدن والتجمعات المكتظة بالسكان. اذ تشير معطيات الحملة الى اعتمادها على سياسة العقاب الجماعي لكل منطقة تنطلق منها عمليات تستهدف القوات الأميركية العاملة في العراق، ثم ممارسة الضغط النفسي على المواطنين عبر فرض قيود على تحركات السكان داخل بعض المناطق ودفعهم الى رفض التستر او التعاون مع عناصر المقاومة التي تستهدف القوات الأميركية، وذلك من خلال حملات اعتقال جماعية تتم بعد تقسيم المدن والمناطق وعزلها عن بعضها بعضا والقيام بعمليات تمشيط في مناطق تغلق عسكريا بهدف اعتقال اكبر عدد من الاشخاص في المناطق التي تدخل دائرة الشكوك الأميركية للحصول على اكبر قدر من المعلومات الاستخبارية، ومن اجل ذلك تم اقامة المزيد من المعتقلات ومراكز التحقيق مزودة بطواقم استخبارية تجيد اللغة العربية لتتولى عمليات التحقيق مع المعتقلين وانتزاع المعلومات منهم.
وفي كل الاحوال من الصعب تبرير التحول النوعي السلبي الذي صار تنفذه القوات الأميركية في المناطق والمدن التي تواجه فيها مقاومة متزايدة باعتباره مجرد تغيير في تكتيكات ناجم عن حال الاحباط التي صار يعاني منها الجنود الاميركيون نتيجة احساسهم بمشاعر عدم الوفاء من جانب العراقيين الذين عملوا على تحريرهم من حكم طاغي كبس على انفاسهم في الصحو والحلم طيلة اكثر من ثلاثة عقود.
والارجح ان ما يجري يدخل في باب تغيير في الاستراتيجية من منهج كسب القلوب والعقول الى منهج التجزيع والتيئيس في نفوس المقاومين. ولعل هذا التغيير مقصود، فنحن نعلم ان القوات الأميركية قد دفعت باعداد من جنودها الى دورات تدريبية بعد اشهر من تجربة احتلالها للعراق لتلقينهم عادات العراقيين وثقافتهم والامور التي تستثير غضبهم، حتى ان بعض هذه الدورات اشرف عليها خبراء في العلاقات العامة وعادات الشعوب، وقد اقيمت بعض الدورات في العراق واشرف عليها ضباط بريطانيون، وهذا يعني ان القوات الأميركية تدرك اهمية مبدأ كسب القلوب والعقول، وما الدورات التي زج بها عدد من جنودها في العراق الا محاولة لتلافي الاخطاء التي وقعت فيها هذه القوات في الاشهر الاولى من الاحتلال.
وفعلا مارست القوات الأميركية اسلوب الجزرة والعصا في تعاملها مع مناطق المقاومة وان شئت التمرد... ولكن دائما كان يغلب اسلوب العصا على الجزرة في ذلك التعامل على رغم الادراك باهمية مبدأ كسب القلوب والعقول، وذلك يعود لاسباب عدة اهمها الثقافة الجمعية للمجتمع الاميركي القائمة على العنف واعتبار مصدر القانون هو القوة. وبغض النظر عن ذلك، فان التحول الجوهري الاستراتيجي نحو منهج التجزيع والتيئيس يبدو انه جاء من كون المقاومة التي جوبهت بها القوات الأميركية فاقت التصورات وصارت تهدد المشروع الاستراتيجي الاميركي الكلي الشمولي الذي خاضت من اجله الادارة الأميركية حرب احتلال العراق.
فضلا عن ان تداعيات تلك المقاومة على الداخل الاميركي فاقت التوقعات، فما يتعرض له الجنود الاميركيون اعاد صورة المستنقع الفيتنامي في اذهان اكثرية واسعة من الرأي العام الاميركي، ولان الوقت عامل ضاغط باتجاه لا يسعف للمزيد من ضبط النفس سيما وان الانتخابات الرئاسية الأميركية اضحت اكثر اقترابا، فيبدو ان المخططين الاستراتيجيين الاميركيين قرروا اللجوء الى منهج التجزيع والتيئيس. وبانتظار الخطوة القادمة من جانب القوات الأميركية، فانه من غير المتوقع ان يكون هذا التحول قد جاء بالنتائج المتوخاة، سيما وان الشعور السائد لدى غالبية السكان في العراق يتجلى في حقيقة مرئية هي ان الاوضاع تسير من سيئ الى اسوأ. فالتراجع في الخدمات الاساسية يتواصل وبلغت انقطاعات الكهرباء في احسن الاحوال في العاصمة بغداد بمعدل يومي 16 ساعة، فيما طوابير الوقوف على محطات تعبئة الوقود تزداد بشكل غير متوقع، والتدهور الامني يتفاقم. في الوقت الذي تواجه خطط نقل السلطة بمعارضة متزايدة فيما الوضع المعاشي والاقتصادي المتدهور الغالبية السكان في اتساع. وكل ذلك لابد ان ينعكس في اثارة غضب عموم السكان ما قد يولد فوضى عارمة تزيد من انفلات الاوضاع وبما لا يمكن تداركه
العدد 461 - الأربعاء 10 ديسمبر 2003م الموافق 15 شوال 1424هـ