ليس هذا عنوان قصة من قصص الأطفال أو سلسلة من الصور الكرتونية الهزلية الخيالية المتحركة، إنما هو عنوان مأساة ثقافية لن يغفرها لنا التاريخ؛ إذْ لايزال العالم ينظر إلى تدمير الحضارة العراقية بعين المراقب عاجزاً عن التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إرث حضاري إنسانيّ، ولا يزال حبر المحبّرين يسيل وأقلام المحذرين من هذه الجرائم تندّد وتستغيث... وتاريخ العراق ينزف ولا مُغيث، ما دامت إرادة القوى العظمى لم تحسم أمرها في مسألة تنظيم الدولة الإسلامية.
نعم، تلك القوى العظمى التي لم تتوان، منذ اثنتي عشرة سنة، في اجتياح العراق جوّاً وبحراً وبرّاً لإسقاط نظام دولة صدام حسين آنذاك، نعم هي القوى العظمى ذاتها التي تقف اليوم عاجزةً أمام آلاف المخربين الذين عاثوا فساداً في آثار مدينة الموصل ونينوى منذ شهرين، ليعود ذات التنظيم، (داعش) «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، السبت الماضي وينشر شريطاً مصوّراً يظهر بعضاً من مقاتليه، وهم يدمّرون ويشوّهون المنحوتات والزخارف في مدينة نمرود الآشورية الأثرية التي تعود إلى نحو ثلاثة آلاف عام باستخدام المعاول الحديدية والمناشير الكهربائية والجرّافات، قبل أن يسوّوا المدينة بالأرض بالمتفجرات، ليتمكن بذلك «المجاهدون» من إزالة معالم الشرك وعبادة الأوثان كما قال أحد العناصر المهاجمة للمتحف وللآثار في نهاية الشريط المصور.
ولئن كانت أنباء التدمير قد وصلت منذ شهر على الأقل، فإنّ الشريط الذي بثّ على مواقع التنظيم أبان عن حجم الدمار الذي نتج عن هذا التدمير، وأظهر عجز المجتمع الدولي في الحفاظ على جزء عظيم من تاريخ الإنسانية، لتقف مدينة النمرود الأثرية ذات التاريخ العريق (القرن الثالث عشر قبل الميلاد) شاهداً على أمرين:
أمّا الأوّل، فالعجز «الممنهج» بمعنى المقصود من القوى العالمية الكبرى من أجل المزيد من إحلال «الفوضى الخلاّقة»، وتبرير تدخّلها في أي دولة باسم محاربة الإرهاب، فضلاً عن تسويق صورة مشوّهة عن الإسلام؛ إذ كيف يعقل أن تسيطر «داعش» على عدة مناطق في العراق تحوي ما يقارب 1800 موقع أثري على مرأى من العالم؟
وأمّا الثاني، فالتدمير الممنهج بمعنى المخطّط له من قبل متطرّفي تنظيم «داعش» لمناطق أثرية عدة في العراق، وخصوصاً عندما يفشل التنظيم في تهريبها وبيعها لتمويل نشاطاته بحسب ما أثبته خبراء الآثار.
وإنّ سعي منظمة «اليونيسكو» لتعبئة عالمية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من آثار شمال العراق، وكذلك تحركات مديرة المنظمة إيرينا بوكوفا من خلال زيارتها بغداد في 28 مارس/ آذار الماضي، للدفع نحو اتخاذ إجراءات لحماية المواقع الأثرية، لا يعدو أن يكون مجرد ذرٍّ للرماد في العيون، مقابل ما يمكن للإرادة السياسية والعسكرية أن تفعله لحماية هذه الآثار.
إنّ الحالة العراقية تستوجب مساندة الدولة من أجل المحافظة على مقدراتها الثقافية والإرث الحضاري الذي تزخر به، وأن تتحمل كل مسئولياتها فيما اُستُؤمنت عليه، وأن يضطلع العالم ومنظماته الدولية بواجبه إزاء هذه المعالم الأثرية الآشورية حتى لا يأتي الدور على ما تبقى في العراق، إن صحّ أنه لا يزال فيها شيء من الآثار لم تبِعه «داعش» أو تدمّره؛ ثم في سورية فمصر فشمال إفريقية، طالما المسألة بنظر «داعش» إزالة مظاهر الشرك وعبادة الأوثان.
إنّ محاربة «داعش» للثقافة الإنسانية من منطلقات دينية لا تخفى على أحد، ولعلّ خطابها الديني يجد صدى في نفوس الشباب العربي، فحين تزعم «داعش» أنها تزيل معالم الشرك وتدمّر الأصنام، يستحضر بعض الشباب العربي المسلم صورة الأبطال في صدر الإسلام حين كانوا يحطّمون أوثان قريش التي عبدها أهل الجاهلية، فيخال لشباب «داعش» أنهم يطهّرون الأرض من الأوثان كما طهّرها المسلمون الأوائل فيتقمّص هذا دور حمزة عمّ الرسول (ص) ويتزيّى ذلك بزيّ عليّ بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) أو بلال بن رباح (رض).
غير أن هؤلاء وأولئك فاتهم أن المسلمين الأوائل من الفاتحين قد مرّوا على هذه الآثار التاريخية سلاماً سلاماً، وفتحوا هذه البلدان وهم يعلمون ما فيها من آثار قديمة ومدن عريقة ولم يدمّروها لأنهم كانوا أكثر حداثةً وانفتاحاً ممّن يدعون اليوم أنهم ينسجون على منوالهم.
إن هذا التشفي من الآثار وإبراز تدميره عبر الأشرطة المصوّرة، رسالةٌ غير مشفرة تؤكد عداء «داعش» للتاريخ الإنساني، وعجزهم عن قبول الآخر المختلف عنهم ثقافياً وفكرياً؛ فإن كان بشراً حاربوه بالقتل، وإن كان جماداً حاربوه بالتفجير.
حقّاً إنها مأساة ثقافية جماعية على حد تعبير الشاعر العربي الكبير أدونيس، في نهاية حوار له مع صحيفة «الصباح» التونسية على هامش معرض تونس الدولي للكتاب حين سئل: ما تفسيرك لظاهرة الاستقطاب الكبيرة التي يشهدها الشباب العربي والهجرة الجماعية نحو الإرهاب؟، أجاب قائلا: «ما تسجله المجتمعات العربية من هبّة للشباب نحو التنظيمات الإرهابية مأساة ثقافية وجماعية، أعتقد أنه يجب أن ننظر إلى الثقافة العربية بوصفها ظاهرة سيكولوجية أكثر ممّا هي ظاهرة بحث معرفي واستقصاء الوجود».
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4602 - الإثنين 13 أبريل 2015م الموافق 23 جمادى الآخرة 1436هـ
متألق كدائما
شكرا على جمال الأسلوب واختيار المواضيع الضاغطة
أحسنت استاد
إن هذا التشفي من الآثار وإبراز تدميره عبر الأشرطة المصوّرة، رسالةٌ غير مشفرة تؤكد عداء «داعش» للتاريخ الإنساني، وعجزهم عن قبول الآخر المختلف عنهم ثقافياً وفكرياً؛ فإن كان بشراً حاربوه بالقتل، وإن كان جماداً حاربوه بالتفجير.
الفوضى الخلاقة
هذا ما يريدون التدمير .لشغل العرب والمسلمين عن العدو المشترك
هذا هو الحصاد
حصاد ثلاثين سنة من ضخ وسائل الاعلام وقنوات الفتنة ومراكز الدعوة التي تعمل باالبترودلار.
حقّاً إنها مأساة ثقافية جماعية
فمتى يزيل القائمون على أمر شبابنا أسباب هذه الماساة؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!!!!!!