نقلت صحيفة الشرق الأوسط أمس الخميس (9 أبريل / نيسان 2015) أن أفلام المخرج الأميركي الناجحة تقع بين هذه الكائنات وضحاياها كلها ثمانية أسابيع وتزحف الدينوصورات من جديد على هذا العالم لكي تدمّـره. في العاشر من يونيو (حزيران) المقبل، ستتساءل تلك الوحوش الفتاكة عن السبب التي عليها أن تكتفي بأن تكون عرضة للفرجة. إذا كان لابد لها أن تكون فلم لا تستبيح البشر؟
هذا كان حلم العديد من الوحوش السابقة. في نهاية «جوراسيك بارك 3» وصلت الدينوصورات إلى الولايات المتحدة وبدا أنها لن تعود إلى جزيرتها بعد اليوم. الآن، في «جوراسيك وورلد» تعتقد أن الإنسان عاد يتحرّش بها. يريدها أن تنتقم من كل شيء حي عداها. أن تدمّـر المدن. تبيد من على الأرض وتحمل ضحاياها بين أنيابها وتطير.
ومئات ملايين الناس حول العالم يريدون التحرّش بها فعلاً. والمنتج- المخرج ستيفن سبيلبرغ في مقدّمتهم. لقد هاجمها في عقر دارها في «جيراسيك بارك» الأول (1993) وعاد إليها في الجزء الثاني (1997) وفتح لها باب الوصول إلى الساحل الأميركي في النسخة الثالثة (2001)… ما الذي يريده أكثر من ذلك؟ ما الذي سيحدث الآن وقد تجاوز الجزء الثالث كل الحدود السابقة وحط بدينوصوراته في قلب سان فرانسيسكو؟
مهما كانت الإجابات فإن «جوراسيك وورلد»، الجزء الرابع من الملاحم الفانتازية الكبيرة المعروفة، صار حقيقة وشركة يونيفرسال التي موّلت المشروع الجديد بتكلفة 150 مليون دولار تفتح خزنتها مرّة أخرى وتبدأ بصرف ميزانية تصل إلى 100 مليون دولار لترويج الفيلم وتسويقه. غايتها اختراق سقف المليار دولار من الإيرادات مستندة إلى عدّة عناصر مهمّـة. العنصر الأول هو أنه مرّت خمسة عشر سنة على آخر «جوراسيك» ما يزيد من حماس المشاهدين وتوقعاتهم. الثاني أن المشروع لديه جمهوره الجاهز وليس صعباً إعادته إلى صالات السينما لمشاهدة هذا الفيلم. الصعوبة عادة ما تكمن في المشاريع المكلفة الجديدة حيث على الناس التعوّد عليها مع خطر أنها قد لا تفعل ذلك. العنصر الثالث يكمن بإسم سبيلبرغ الذي لا يحتاج لإثبات هوية. ليس أن كل مشاريعه ذهبية النتائج، بل هناك ما تعثّـر منها، بل لأن هذا الإسم مرتبط بأفلام التشويق والخيال العلمي أكثر بكثير مما هو مرتبط بأفلام «لينكولن» و«أمستاد» و«حصان الحرب» أو «ميونخ».
في الواقع هناك نقاد تساءلوا لماذا يزعج سبيلبرغ نفسه ليحقق أفلاماً من غير تربته الأولى. من هؤلاء من وجد أن سينما الترفيه هو سينما سبيلبرغ و»ما عدا ذلك، لم ينجز سبيلبرغ ما يصل إلى مستواها أو نجاحها».
لكن سبيلبرغ لا يرى ذلك. حين قابلته في نيويورك في أعقاب أحد تلك الأفلام التي أخابت توقعات الكثيرين، وهو «ميونخ» (2005) قال: «أحب أن أرى نفسي مخرجاً لنوعين من الأفلام. نعم أحب الأفلام الترفيهية التي اعتادها الجمهور مني، لكني من حين لآخر لابد لي أن أحقق أفلاماً أشعر بأنني مهتم بها على نحو شخصي. «ميونخ» من بينها».
"حب السينما"
سبيلبرغ كان أخرج الجزئين الأول والثاني من «جوراسيك بارك» أما الثالث فترك إخراجه لجو جونستون وهذا الرابع للمخرج كولين تريفورو. وبين جونستون وتريفورو فروقاً شاسعة. الأول له خبرة أوسع في مجال هذا النوع من الأفلام كونه حقق قبل «جوراسيك بارك 3» «جوماني» وبعده «كابتن أميركا» وكلاهما من أفلام الخيال العلمي الكبيرة، بينما تريفورو لا يزال طري العود وفيلمه السابق لم يكن من هذا النوع مطلقا بل كوميديا عاطفية مع وجوه غير مشهودة مثل أوبري بلازا وباسيل هاريس (!). السبب في إختيار كولين تريفورو غير معروف، لكن تريفورو يعرف ديريك كونولي كاتب سيناريو «جوراسيك وورلد» وربما بواسطته تم له استحواذ ثقة سبيلبرغ.
في كل الأحوال ستيفن سبيلبرغ ليس بعيداً مطلقاً عن العمل. هو المنتج المنفّـذ وبالتالي المهيمن على مسار الفيلم والقابض على شؤونه جميعاً بما فيها الفنية. أي قرار من أي نوع عليه أن يمر به أولاً وبما أننا أمام صنعة لا تتحمّـل الأخطاء فكل القرارات المهمّـة تم اتخاذها من قبل التصوير والتفاصيل هي التي تبقى وهذه لا تمر إلا من أنبوب المنتج المنفّـذ، ليس فقط في هذا الفيلم، بل في الأفلام جميعاً.
سبيلبرغ يرتاح للمهنتين معاً أو منفصلتين. يقول: «لا أستطيع أن أخرج كل ما أريد أن أنتجه. لذلك يبدو الأمر كما لو أنني أفضل في هذه الأيام عمل المنتج على عمل المخرج. لكن الواقع هو أنني لو أخرجت كل أفلامي لاستغنيت عن الكثير من الأفلام الأخرى».
لكن كيف يجمع بين الناحيتين ويومه مزدحم، ومنذ عقود، بالأعمال:
«سابقاً كنت ما أقول أنه نظام العمل الذي اتبعه. الآن لست متأكداً من أن هذا هو السبب الوحيد. ربما هو الدافع الداخلي في نفسي، فأنا ما زلت أحب السينما كما لو كنت أفعل عندما كنت هاوياً… الشيء المؤكد هو أنني لا أتعاطى أي مخدرات» (يقول ذلك ويضحك ساخراً)
"الفيلم- الرمز"
كان سبيلبرغ ما زال فتى عندما اشترى له والده كاميرا وتركه يصوّر ما يشاء. في الثالثة عشر من عمره أخرج فيلماً قصيراً (كتبه ومثله بنفسه) أسمه «المسدس الأخير». في سن الثالثة والعشرين كان دخل التلفزيون وحقق حلقتين من مسلسل «نايت غاليري» التشويقي. بعد ذلك أخرج، سنة 1971، حلقة من مسلسل «كولومبو»، وقرب نهاية ذلك العام أنجز فيلماً من إنتاج التلفزيون وعرض في أميركا على هذا الأساس، لكنه عرض عالمياً كفيلم سينمائي. هذا الفيلم هو «مبارزة»: دنيس ويفر في دور رجل أعمال جوّال يخرج من بيته صباح يوم على طرقات أريزونا الجبلية ليجد نفسه ضحية سائق شاحنة يطارده ليقضي عليه من دون سبب ظاهر.
كل بصمات سبيلبرغ المهمّـة موجودة على ذلك الفيلم: التخويف من القوّة الغامضة، محاولة الفرار من الأقدار، النهايات التي تجسد لنا أبطالاً يحاولون فك ألغاز ما حدث… وبالطبع تلك الوحوش التي تنطلق في أعقاب البشر، لأن الشاحنة التي في «مبارزة» لم تكن مجرد شاحنة عادية، بل عملاقة مخصصة لنقل الغاز والبترول. هي رمز بالتأكيد. لكن رمز لماذا بالتأكيد؟ خطر قيام العرب آنذاك بتقويض الإقتصاد الأميركي كما صوّره الإعلام الأميركي في أفلام أخرى في تلك الفترة («رولأوفر» و«سـلطة» مثلاً)؟
رمز للمؤسسة الأميركية التي تطحن أبناءها؟ أم رمز لإضطهاد غير منظور لا يشعر به سوى الضحية؟ أم كل هذه الرموز معاً؟
بعد أن أخرج فيلماً ذا تركيبة درامية مختلفة (هو «شوغرلاند إكسبرس»، 1974) الذي كان فيلمه السينمائي الأول، قام بتحقيق فيلمه الثاني عن وحش كاسر هو «جوز» (Jaws) عن سمكة قرش عملاقة تتغذّى على لحم السياح طالبي السباحة واللهو على شاطيء عادة ما هو آمن. أذهل سبيلبرغ الجمهور بتفعيلات بسيطة: ذلك الجزء المخروطي عند رأس القرش الذي يظهر من تحت الماء قبل ظهور القرش ذاته وهو يسبح إقتراباً من الضحية. الفكّـان الكبيران والعناد المستمر للنيل من البشر والتهامهم.
يمكن أن نقول أن الوحش في «جوز» هو ذاته أحد وحوش «جوراسيك بارك» من حيث الدلالات والتأثيرات والحالة الكوارثية التي تتبع ظهوره.
بقي سبيلبرغ في إطار سينما الدهشة والترفيه عندما عاد سنة 1977 بفيلم «لقاءات قريبة من النوع الآخر». ما لم يفت انتباه أحد أن «جوز» وقبله «مبارزة» عكسا وجهة نظر المخرج بالأرض ومن عليها. هو يحمل، كما ستدل أفلام أخرى له أيضاً، قدراً من الغضب على الحياة التي نعتبرها طبيعية وقدراً آخر من الشماتة لما يحدث عليها من دمار لا يستطيع الإنسان الإنتصار فيه إلا بمعجزة. بينما، وهنا المفارقة، يعكس الفضاء إطلالة على المخلوقات الأعلى شأناً. «لقاءات قريبة من النوع الثالث» هو تحيّـة لحياة متقدّمة تخلو من الفواجع البشرية ومن الكوارث والوحوش وتتميّـز بتقدّمها الإجتماعي والنظامي والحضاري المثالي البعيد عنا.
الأمر نفسه حين يضل المخلوق الفضائي في «خارج الأرض» (1982) طريقه ويصبح، على عكس العشرات من الأفلام التي صوّرت غزاة الكواكب الأخرى كوحوش كاسرة، ضحية سوء فهم الناس بإستثناء أولاد ما زالوا أصغر سنا من الإنحياز إلى العدائية والشرور التي يراها المخرج في باقي البشر.
"جميعها وحوش"
نعم اختلفت أفلام سبيلبرغ نسبة لمواضيعها بعد ذلك، لكن الوجه الداكن للبشرية بقي ماثلاً حتى في مغامرات «إنديانا جونز»، الأول سنة 1981 والثاني سنة 1984 ثم الثالث في العام 1989) قبل أربع سنوات من تحقيقه «جوراسيك بارك» (1993). إنه الرجل القاسي داني كلوفر في «اللون أرجواني» (1985) والنازية في «لائحة شيندلر» (1993) والمستقبل المظلم للإنسان وقد عاد أدراجه مستقبلاً إلى الوراء في «ذكاء إصطناعي» حاكماً على بطله (الذي هو نوع آخر من المخلوقات غير الآدمية) بالموت إذا ما وصل إليه.
الفيلم المسبق لفيلمه عن ضحايا الهولوكوست كان «جوراسيك بارك» والنقلة من الخيال حيث الإنسان الحاضر مسحوقاً تحت أقدام الوحوش إلى إنسان الأربعينات مسحوقاً تحت عجلات النازية لافت. صحيح أن الأول خيالي والآخر مأخوذ من الواقع (مع ترميمه خيالياً)، إلا أن الضحية هي واحدة في حالتين متشابهتين: الحيوانات الجوراسية، ومن قبلها سمكة القرش والشاحنة الغامضة التي لا نرى سائقها، هي جميعاً وحوش بمسميات مختلفة. النازية ليست مختلفة، لكن سبيلبرغ لا يستطيع أن يلعب بها ويحوّلها إلى صرح رمزي أو مجازي. عليه أن يقدّم صورة العدو كما هي، وهو قدّمها أيضاً في «تابوت العهد» (الجزء الأول من سلسلة «إنديانا جونز») ولو أنه ضمّ العرب إليها أيضاً.
«جوراسيك بارك» الأول (حاز ثلاث أوسكارات) كان من كتابة الراحل مايكل كريتون الذي انشغل بوضع الإنسان ضد القوى الأكبر. كان كتب «وستوورلد» الذي قام بإخراجه للسينما سنة 1973. ذلك الفيلم حمل الفكرة ذاتها التي قامت عليها فكرة «جوراسيك بارك».
في «وستوورلد» مدينة ملاه مستقبلية تؤمن للزائرين العيش في خيالاتهم. إذا أحببت الإنتقال إلى فترة الأزمنة الرومانية فإن هذا ممكن، سيتم إرسال «روبوتس» يحملون الأسلحة اليدوية التي كان الرومانيون يتصارعون بها في الحلبات. «تلعب» مع الروبوتس كما لو كنت ما زلت ولداً صغيراً تؤدي دوراً خيالاً مع أبناء عمرك. إذا أردت أن تصبح بطلاً من الغرب الأميركي، أتاحت لك المدينة روبوتس يتصرّفون كما لو كانوا في مشهد من أيام ذلك الحين. الذي يحدث هو أن الكومبيوتر يتعطل أكثر من مرّة وفي النهاية يتمرد الروبوتس على الأوامر وينطلقون لقتل الآدميين.
«جوراسيك بارك» فيه دينوصورات عملاقة تتم محاولة استثمارها لتحويلها إلى عنصر جذب لطالبي الترفيه المطلق. لكن هذه ستثور وستتمرد. وهي فعلت ذلك في كل جزء من الأجزاء الثلاثة.
هذا الجزء الجديد يلفّـه غموض مقصود. التريلر لا يقول الكثير والشركة تتعتم على أخباره والعملية تتم في سرية كاملة ضماناً للمفاجأة.
في الوقت ذاته الذي يتابع ستيفن سبيلبرغ ترتيبات عرض «جوراسيك وورلد» في العاشر من الشهر السادس من العام (سيفتتح في الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة ولبنان وعواصم أخرى في اليوم ذاته) يتابع كذلك مراحل ما بعد تصوير فيلمه الأول كمخرج منذ «لينكولن» قبل ثلاث سنوات، وهو «جسر الجواسيس» (مع توم هانكس وآمي رايان) ويصوّر فانتازيا بعنوان The BFG مع مارتن فريمان وبل هادر في البطولة.
إذاً، يبدو أن سبيلبرغ عاد للنشاط على أكثر من جبهة، لكن الواقع هو أنه لم يتوقف يوماً عن العمل منذ أن اشترى له والده تلك الكاميرا.