في كتاب «من تاريخ التعذيب في الاسلام»، للباحث العراقي هادي العلوي، الذي تناولناه في المقال الأول يوم الخميس الماضي، نقف على صنف ارتبط بالتعذيب كما يرى العلوي هو على صلة بالعقوبة، ويتناول فيه هنا الحدود، من الجلْد للسكران والزاني غير المحصن والمحكوم بالقذف، والرجم للزاني المحصن وقطع يد السارق، وقطع أيدي وأرجل قطَّاع الطرق وصلبهم، ويضع كل ذلك ضمن حزمة التعذيب، بغض النظر عن منفذها والظروف التي قامت فيها، وحالات الخلط المُتعمَّد التي حدثت لبعض تلك الحالات، بالالتفاف عليها وتكييفها تبعاً لمزاج السلطة والجهة التنفيذية، وفي الوقت نفسه، حقيقة قيامها وخضوعها للعقوبات التي أقرَّتْها الشريعة.
ورابعها تعذيب المقابلة بالمثل، ويصر أن يجعله ضمن «التعذيب» أيضاً. على رغم تضمّنه على باب فقهي تفصيلي ضمن حالات احترازية تتوافر فيها الضمانات الكافية، ولا يكتفي العلوي بذلك؛ بل بعد اعترافه بأن الشريعة تقر ذلك الشكل من العقوبة، يعتبره مبدأ مستمداً «عبر التوراة من شريعة حمورابي».
وبالعودة إلى بعض صور التعذيب التي نعاصر ونشهد، نطمئن إلى أن لذلك جذوراً وأسساً وممارسات وتقعيداً وفقهاً وتبريراً وصمتاً أيضاً. الصمت يكون أحياناً مصدراً من مصادر استمراء وتعوِّد الممارسة.
ما نراه، وما ترونه اليوم ليس إلا صورة مُصغَّرة عمَّا حدث بالأمس. ليس إلا استكمالاً لعقيدة الإلغاء والمحو والذبح، واصطفاء ما تراه تلك الأطراف، باعتبارها خلاصة الطهر، وإن امتلأ تاريخها بالنجس والدم، وخلاصة الرأفة وإن لعبت بالرؤوس كما يلعب الصبية بالكرة، وخلاصة العدل، وإن أُخِذ الناس بالظنَّة والشبْة!
على رغم الخلط واضطراب المنهج الذي اتبعه العلوي، بخلطه بين التعذيب الذي ترتكبه مجموعات وسُلَط جاءت بالقوة والمال والنفوذ، والتعذيب الذي يُمارس أكثر ما يُمارس بدوافع سياسية ولأسباب مواقف يتخذها معارضون، وبين القوانين والعقوبات الإسلامية التي وإن طُبِّقت أمس أو اليوم، هنا أو هناك، فإنها لا تعطي صورة وخط منهج ورابطاً لمثل ذلك الخلط. تلك مسألة. مسألة أخرى تتعلَق بالاشتراطات الصعبة التي يتم فيها تطبيق مثل تلك العقوبات التي وضعها العلوي جنباً إلى جنب مع التعذيب الذي مارسه قتلة وخارجون على القانون، وجاءوا رغم أنف من كانوا تحت رحمتهم.
معظم العقوبات يتم تطبيقها في حدود ضيَّقة؛ نظراً إلى الاشتراطات والحدود الصعبة، والقرائن التي يتم بها ومن خلالها تنفيذ العقوبات، ولن يتأتى ذلك إلا في ظل حكم عادل ونزيه لا يضع للاعتبارات السياسية أهمية، ولا للمعارضات تبريراً للقتل والصلب والحرق أحياناً. طبقت العقوبات تحت عناوين الدِّين من قبل مهيمنين على الحكم، وعلاقتهم بالدِّين لا تكاد تذكر. ودونكم مصادر التاريخ تأمَّلوها بحياد ونزاهة وسعة أفق.
خذ هذه الفظاعة التي تمَّت في بيت من بيوت الله، وباسم جانب من تشريعه، وتحت عنوان الدفاع عن الشريعة، وفي يوم العيد الأكبر للمسلمين. «كان خالد القسري قبل ولاية العراق والياً على الحجاز، وأصدر حينذاك تحذيراً لمن يطعن في الخليفة أن يصلبه في الحرم (في الحرم! ذلك يعني ألاَّ معنى لإله البيت والحرم. المعنى لإله القسري على الأرض)، ومن المعروف أن الشريعة حرّمت قتل الحيوان في هذا المسجد واختلف الفقهاء فيما إذا كان يجوز قتل الأفاعي والعقارب فيه».
والقسري نفسه معروفة قصته مع الجعْد بن درهم كما ذكرها الحافظ ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية»، المجلد التاسع، صفحة 379، بعد أن اتهمه بالقول بخلق القرآن؛ حيث قتله يوم عيد الأضحى بالكوفة، بعد أن خطب الناس، وجاء في خطبته: أيها الناس، ضحُّوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ اليوم بالجعْد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلِّم موسى تكليماً، تعالى الله عمَّا يقول الجعد علوَّاً كبيراً، ثم نزل فذبحه أسفل المنبر»!
خذ فظاعة الإحراق التي تبدو آخر صيحات وموضات التنظيم الإرهابي اليوم على يد «داعش»، فله شواهد ونماذج كثيرة في التاريخ الذي ننتسب إليه، أو ينتسب إلينا. يشير العلوي إلى رواية الطبري، تفيد أن الإحراق استخدم في «خلافة هشام بن عبدالملك لإعدام داعيةٍ من غلاة الشيعة هو المغيرة بن سعيد العجلي، وكان قد خرج على الدولة في ظاهر الكوفة أيام ولاية خالد القسري». كما يذكر الطبري أن عدد من أعدمهم أبو مسلم الخراساني في المشرق بلغ ستمئة ألف رجل وامرأة وغلام.
وهناك تراث عريق من المثلة بالميت، له أول ولا آخر له، وأول من بدأ تلك الممارسة الشنيعة الأمويون. يكفي أن نعرف أن أول رأس حمل في الإسلام هو رأس عمرو بن الحَمَق الخزاعي، وحمل رأس الحسين وأصحابه بعد معركة كربلاء.
العلوي يشير إلى أن مصدر التعذيب في الحالات الموصوفة آنفاً هو الدولة، وضحاياه هم عامة الناس...». ويزيد على ذلك بتقرير أن ظهور التعذيب السياسي خصوصاً هو أكثر «ظهوراً في الدولة» ولم يتم التفنن فيه إلا من أجل توجيهه وتركيزه أساساً «ضد الطبقات المُنتجة لصالح الطبقة أو الطبقات السائدة».
كما يذكر العلوي أن القتل تحت التعذيب بلغ «أشنع حالاته بعد الحقبة العباسية الأولى. ويرتبط ذلك بتعقُّد الوضع العام للمجتمع العربي الذي عانى مع ظهور الإسلام ومخاضات التدرُّج من البداوة إلى الحضارة، واستكملها في غضون القرن الأول للحكم العباسي؛ حيث اقترن تبلور الدولة بالطلاق البائن مع بقايا المُثُل البدوية. وللحديث تتمَّة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4587 - الأحد 29 مارس 2015م الموافق 08 جمادى الآخرة 1436هـ