الأنانية فينا، تصغر أو تكبر، ليس رغماً عنا، بل بأيدينا وبقدر علاقاتنا الاجتماعية ومحور تمركزنا فيها، وكم نستفيد منها أو يستفاد منا، وإلى أية درجة أعتمد أو يُعتمد عليّ فيها، من أجل تسيير حياتي وحياة الآخرين حولي، وكم ينالنا نصيب منها، وكم أعطي لمن أحب. أن أحبك لا يعني أن لا أكون أنانيا معك، فالحب لا يلغي الأنانية بقدر ما يهذّبها.
الأنانية تعني كم أفضل نفسي وأقدّمها على الآخر، وهناك فرقٌ بين حب الذات والأنانية، ولا يعني الابتعاد عن الأنانية أن لا أحب ذاتي بقدر ما هو الدعوة لخلق توازن بين حبّنا لذاتنا والتضحية من أجل الآخرين بناءً على الأحوج. لكن ما مصدر الأنانية؟ هل هو العقل أم الغريزة؟
الفلاسفة وعلماء المنطق يرون أن التمييز بين العقل والغريزة قائم على أن الأول مختص بالوعي والإدراك، والثانية هي حالة من اللاوعي والانفعالات. لكن من الغريب أنهم اعتبروا أن «الأنا» و»الأنانية» تسيطران على كل من العقل والغريزة، فالإنسان إذا فكّر بعقله كانت الأنا حاضرة وهي في الوقت ذاته هي محرّكة لغرزته ودوافعه.
الإنسان في هذه الحياة أغلي ما يملك هو محبوه من لحمه ودمه، خصوصاً والديه وأبنائه وأخوته، والأم والأب نعمة من الله، أن تطول معنا، وتكون جداراً نستند عليه فترات طويلة من حياتنا بتقلباتها، بحلوها ومرها، بيسرها وعسرها، فهم عطاءٌ لا ينضب، وموجّهٌ لا يمل، ودفءٌ لا يبرد.
لا يوجد إنسان معطاء كالوالدين، ولا يوجد إنسان سواهما يعلم أن هناك من يحبه يستغله، لكن على الرغم من ذلك يعطيه بلا حدود. فالأم والأب يعطيان من وقتهما وجهدهما ومالهما لأبنائهما منذ طفولتهم، وهم في فترة الضعف إذ لا يقدرون على شيء، إلى أن يكبروا ويشيبوا. وهناك آباء وأمهات يتمادون في العطاء لدرجة أنهم يهضمون حقهم في العيش والاستئناس في هذه الحياة والتفرغ لتحقيق ما يرغبونه، فتتوقف حياتهم، وكأنهم خُلقوا لرعاية فلذات أكبادهم حتى الممات دون توقف، اهتماماً وبذلاً.
المشكلة في أن الأبناء بهذه الطريقة فهموا وكيّفوا حياتهم على أن الآباء يجب عليهم تحقيق ما يريده الأبناء، وفي الوقت الذي يريدونه، حتى أصبحت عادة وجزءًا من فهم الشخص وتعامله اليومي دون أن يشعر بها، فالأبناء يستغلون آباءهم ماداموا قادرين على العطاء، ابتداءً من الصرف المالي إلى قضاء حوائجهم اليومية... وانتهاء بالاهتمام بأبنائهم، مستغلين بذلك الحب العظيم الذي يكنّه الآباء لهم. فهل البر بالوالدين الاستغلال من حيث نشعر ولا نشعر؟ وهل يكفي البذل والطاعة لأكون من البارين؟
البرّ هو أقصى درجات الإحسان، فالبرّ لا تغطيه هدية في يوم، ولا كلمةٌ طيبةٌ عابرة، بقدر ما تؤمّنه قضاء حاجات ورغبات الآباء قبل أن ينطقوا بها. أن أُبعِدَهُم عن المسئولية حتى لو كانوا يمتلكون القدرة مادمت أستطيع الإيفاء بحاجاتي. دعوا الآباء يعيشون ليومهم دون التفكير المضنى باحتياجات أبنائهم وهم في طولهم.
لنبدأ التغيير في طريقة تعاطينا مع الوالدين، فالتفكير في بلوغ حسن الطاعة والسعي نحو الكمال مطلوبٌ لأنه وسيلةٌ إلى فعلها. والتفكير في استحالة فعلها طريق إلى تركها أو الإخلال بها. وما نقول إلا «ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب» (سورة إبراهيم، 41).
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 4578 - الجمعة 20 مارس 2015م الموافق 29 جمادى الأولى 1436هـ