لايزال التنازع بين الفرقاء في بعض البلدان العربية سيّد الموقف، ولايزال الدمار والتخريب واستباحة دماء الأبرياء يعصف بمقدرات بعض هذه الدول رغم أنّ الكلّ يحمل شعار الغيرة على الوطن والمصلحة الوطنية. إلاّ أنّ التجربة التونسية تمثّل استثناءً بامتياز؛ فها هي تونس، وهي تستعدّ للاحتفال بعيدها الوطني الخامس بعد الثورة (20 مارس/ آذار)، تتقدَّم حثيثاً على درب الانتقال الديمقراطي وتتجاوز مرحلة الخطر وتتجنّب الاقتتال الطائفيّ أو القبليّ رغم محاولات إذكاء جذوته بين الحين والآخر.
ها هي تونس وقد رفع الفرقاء فيها شعار المصلحة والمصالحة الوطنية، تكتب تجربة حية ممكنة لإنجاز تاريخي فريد تَعانَق فيه حلم أجيال وأجيال في ترسيخ مناخ ديمقراطي وحياة سياسية ينعم فيها الجميع بالمشاركة على قدم المساواة.
صحيح أنّ العيد الوطني في تونس ذكرى متجددة لإحياء تضحيات بناة الدولة المستقلة ومحطة وفاء لرجال صدقوا ما عاهدوا الوطن عليه من حب هو شعبة من شعب الإيمان... لكنه يأتي هذه المرة في سياق بناء الدولة أو الجمهورية الثانية في سياق الاحتفال بما أنجزه الفرقاء السياسيون مما عجزت عنه العديد من التجارب العربية بعد طوفان 2011.
ولقد راهنت تونس على حكمة أبنائها وآمنت بقدرتهم على فضّ النزاعات السياسية وطنيّاً دون اللجوء إلى المبعوثين الأمميين ولا إلى عقد مؤتمرات مصالحة خارج بلادهم، وإنما كانت قضايا وطنهم مطروحة على طاولة التفاوض فيما بينهم بمشاركة كل القوى السياسية (الأحزاب) والاجتماعية (الاتحاد العام التونسي للشغل) والاقتصادية (اتحاد الصناعة والتجارة) والحقوقية (عمادة المحامين، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان)، أو ما اصطُلِحَ على تسميته بالرباعي الراعي للحوار الوطني أواخر العام 2013 وخلال العام 2014 دون الاستغناء عن محاورة دول الجوار. وقد توّج التونسيون كل ذلك بانتخابات تشريعية ورئاسية بوّأت تونس مرتبةً متقدمةً جداً في تصنيف الدول على سلّم شفافية الانتخابات.
لقد جسّد الفرقاء السياسيون في تونس على رغم التباعد الفكري والإيديولوجي، المصالحة الوطنية في أجلى مفاهيمها؛ المصالحة الوطنية بما هي عملية توافق وطنيّ، تنشأ على أساسها علاقة بين الأطراف السياسية والمجتمعية، وتقوم على قيم التسامح، وإزالة آثار صراعات الماضي، من خلال آليات محددة واضحة وفق مجموعة من الإجراءات تهدف إلى الوصول إلى نقطة الالتقاء، وقد وصل الفرقاء فعلاً إلى برنامج متفق عليه لإنقاذ البلاد من أزمتها ووضعها على الطريق الصحيح.
لقد مثّلت المصالحة في السياق التونسي توافقاً وطنياً استهدف تقريب وجهات النظر المختلفة وردم الفجوات بين الأطراف المتخاصمة أو المتصارعة. وقد عبّر العديد من قادة الأحزاب عن ضرورة تجاوز أحقاد الماضي، فلطالما شدّد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي (وهي الحركة الأكثر تضرراً من الأنظمة السابقة في تونس) على رفض توريث الأحقاد، ودعا إلى المصالحة الوطنية، وثمّن دور العائلة الدستورية في معركة الكفاح وبناء الدولة رغم الأخطاء المرتكبة خصوصاً في مجال الحريات مع دولة الاستقلال. كما تميّزت التجربة التونسية التوافقية برفض العزل والاجتثاث حتّى باتت محط احترام العالم، ونموذجاً قابلاً للدرس.
ولا يدّعي أحد أنّ مشروع المصالحة الوطنية ابتكار تونسي محض؛ فمفهوم المصالحة الوطنية قد بدأ استخدامه وتطبيقه مع نهاية الربع الأخير من القرن العشرين ولاسيما في بعض دول أميركا الجنوبية، وأقطار المنظومة الاشتراكية سابقاً، وبعض البلدان الإفريقية، والتي بدأت تشهد في تلك الفترة انتقالاً بأسلوب الحكم من المجتمع المغلق إلى المجتمع المدني الديمقراطي. رغم أنّ مصطلح المصالحة الوطنية يعود تاريخياً إلى الزعيم الفرنسي التاريخي شارل ديغول، ولعل أبرز من جسّده الزعيم الراحل نلسون مانديلا في جنوب أفريقيا وهو لا يزال قابعاً في السجن، إذ رأى أن من واجبه أن يضطلع بنفسه بقرار التفاوض حول مبدأ إجراء العفو العام بنحو يطمح إلى مصالحة وطنية.
لكنّ الأكيد أنّ التونسيين أدركوا الكلفة الباهظة لتأخّر المصالحة الوطنية، فتخلّى بعضهم عن شيطنة الماضي، وسعى لفيف كبير من رموز الماضي إلى الانخراط في الحياة السياسية الجديدة وبعقلية جديدة، واجتهدت الأحزاب الناشئة بعد الثورة في المساهمة في البناء الديمقراطي... وهكذا أثبت الفرقاء السياسيون في تونس أنّ المُصالحة هي المدخل الوحيد لسدّ نيران الفتنة والتقسيم، وإفساد كلّ مُخطّطات وأجندات الفوضى والتخريب التي سعى إليها البعض داخلياً وخارجياً لكن دون جدوى.
ومن هنا حريٌّ بذكرى العيد الوطني في تونس، أن تكون مناسبةً للاحتفاء بدور هذا الجيل السياسي الجديد والمخضرم الذي استطاع أن ينقذ الحياة السياسية في البلاد، لكن لاتزال أمامه تحديّات كبيرة لعلّ أبرزها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، فإلى أيّ مدى ستتوفّق تونس في رفع هذه التحديات؟
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4574 - الإثنين 16 مارس 2015م الموافق 25 جمادى الأولى 1436هـ
في عيدها الوطنيّ... تونس نموذج للمصالحة الوطنيّة
الله يستر تونس من أعداء الحرية والديمقراطية
ذلك هو السؤال
ومن هنا حريٌّ بذكرى العيد الوطني في تونس، أن تكون مناسبةً للاحتفاء بدور هذا الجيل السياسي الجديد والمخضرم الذي استطاع أن ينقذ الحياة السياسية في البلاد، لكن لاتزال أمامه تحديّات كبيرة لعلّ أبرزها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، فإلى أيّ مدى ستتوفّق تونس في رفع هذه التحديات؟