على رغم أنه أعلن حديثا في الرباط عن إنشاء «هيئة الإنصاف والمصالحة»، تهدف حسب ما صرح به وزير العدل المغربي عمر عزيمان، إلى «وضع لبنة أخرى في مسلسل سياسي انطلق منذ سنوات، وكتابة الجزء الأخير من مسلسل يتطور يوما عن يوم، يواكب تحولا سياسيا عميقا في إطار استمرار نظام الحكم» عبر جبر خواطر الأشخاص والأسر، التي تعرضت إلى الضرر، إبان ما يسميه المغاربة بسنوات «الرصاص والمعتقلات السرية»، ورد الاعتبار لضحايا الستينات والسبعينات والثمانينات وذويهم.
وحسب تصريحات المشاركين في اليوم الدراسي الذي نظمه مركز التوثيق والإعلام والتكوين في مجال حقوق الإنسان الأسبوع الماضي فإن الهيئة الجديدة لا تهدف إلى الاقتصاص من مسئولي عهدي «الجنرال الدموي» أوفقير، وسلفه «إدريس البصري» باعتبار أن التحول الذي يعرفه المغربي يأتي في إطار تطور نظام الحكم نفسه، وليس خارجه، كما حصل في عدد من بلدان المنظومة الاشتراكية، أو دول الجوار في المنطقة كإسبانيا والبرتغال. ما يطرح باب التساؤل واسعا: هل لتحسين الوضع الحقوقي في المملكة، كان يستوجب الإطاحة بنظام الحكم على غرار الأنظمة الشمولية والشيوعية؟ الأكيد أن الجواب سيكون بالنفي، لأن هناك أنظمة حافظت على استمراريتها كإسبانيا المجاورة، لكن في الوقت نفسه أعطت لنفسها زيادة على الشرعية التاريخية، وربما حتى الدينية، شرعية أخرى هي الشرعية الديمقراطية، برد الاعتبار لضحايا المرحلة المظلمة من تاريخها، وبمعاقبة المسئولين عن أي مساس بحقوق الإنسان، وارتكاب جرائم ضد فئات من الشعب، كان ذنبها الوحيد المطالبة بالإصلاح السياسي ورفع الغبن الاجتماعي، والحصول على العدالة الاجتماعية والتساوي في الحقوق والواجبات.
إن عدم التعرض للمتهمين بارتكاب جرائم ضد المواطنين، وبالشطط في استعمال السلطة، لأمر خطير، وخصوصا أن هؤلاء مازال غالبيتهم على قيد الحياة، أو في مناصبهم الأمنية والسياسية الحساسة، ينعمون بالأموال التي حصلوا عليها، ما يغريهم إلى تكرار السيناريو إذ تلقوا أوامر تفيد بذلك. وبالتالي فإن خروج هؤلاء «سالمين غانمين»، قد يشجعهم ويشجع آخرين على ارتكاب أعمال مماثلة، مادام أن «المغرب والحمد لله يعيش في جو المسامحة والاعتدال وما شابه ذلك».
لذلك، من الضروري قبل أن نخطو أية خطوة إلى الأمام، من أجل حياة ملؤها «الإنصاف والمصالحة». لابد وحتى يكون هناك «إنصاف حق وحقيقي» من محاكمة مجرمي الفترة السابقة وإصدار الأحكام في حقهم، وبعدها يمكن أن يأتي دور «المصالحة»، ويصدر الشعب في حقهم حكم العفو بعد المقدرة. أما أن تسير الأمور هكذا، فيجب القول لا، حتى نضمن عدم تكرار هذه الممارسات، وخصوصا أن التقارير الحقوقية الصادرة سواء عن المنظمات المغربية المحلية أو المنظمات الدولية، بدأت في دق جرس الإنذار من إعادة الروح لبعض الممارسات البائدة تتناقض عن ما تنص عنه القوانين المغربية.
ويمكن لأي كان أن يطلع على ذلك من خلال مطالعة الصحف المغربية، المستقلة أو الحزبية، ليدرك خطورة الأمر، وكان آخره ما تناولته بعض التقارير الصحافية عن الوضع غير الإنساني الذي يعيشه «إرهابيو» السلفية الجهادية وبعض المعتقلين السياسيين. فمادام أن القضاء أصدر كلمته في حق هؤلاء «القتلة» سواء بالسجن أو المؤبد أو حتى بالإعدام، فيجب على السلطات أن تتقيد بتنفيذ الحكم من دون أين تصحبه بممارسات انتقامية في حقهم وحق زوارهم من أقاربهم كالضرب الشديد والحبس الانفرادي، الذي دفع بالبعض إلى حد الانتحار وسجلت لحد الآن حالتان، وفشلت الثالثة، وفق ما اعترف بذلك حراس سجن القنيطرة في تصريحات لبعض الصحف المغربية بعد تأنيب ضميرهم.
وإذ ندق جرس الإنذار هذا فإننا لا نعني بهذا الدفاع عن أتباع هذا «النبت الشيطاني» الغريب عن مجتمعنا المغربي، الذين كانوا سببا رئيسيا في نكسة المغرب الحقوقية، بل الدفاع فقط عن حقهم كأناس «عاقّين» وكمواطنين مغاربة قالت العدالة كلمتها فيهم، وانتهى الأمر، ولا داعي بالتالي لمثل هذه الممارسات التي إن عبّرت عن شيء فهي تعبّر عن قصور سياسي خطير. من هنا وجب قبل إرساء أي أسس للمصالحة أن يتعرض المسئولون عن مثل هذه التصرفات للمحاسبة والعقوبة، لأن هذا فقط هو الكفيل بإرساء حقوق إنسان فعلية في المغرب، بعد أن يجد من في يدهم السلطة أنهم معرضون في أي وقت من الأوقات للمساءلة القانونية في حال أي شطط منهم في استعمال السلطة، والمس بحقوق مغاربة ما بعد «حقبة التناوب السياسي». فيكفينا ما ضيعته علينا تلك الممارسات على امتداد العقود الأربعة الماضية، ولننشغل أكثر فأكثر بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر العنصر الرئيسي لإرساء حقوق إنسان «حقيقية» وفق المعايير الدولية، وخصوصا أننا نعايش ذلك على بعد أميال قليلة وراء مياه مضيق جبل طارق... بعدها سيكون بإمكاننا القول: «المغرب... تقدم إلى الأمام» ولن نقول بالتأكيد «المغرب... إلى الخلف در»
العدد 457 - السبت 06 ديسمبر 2003م الموافق 11 شوال 1424هـ