دعونا نتحدث بصراحة. فمن ثقافتنا الخاطئة، الاعتقاد بأن حياتنا مجرَّد قطار، مَنْ لا يُدركه لن يركب غيره أبداً. هذا الأمر مجافٍ للحقيقة، لأنه يُكرِّس لدينا تفسيراً أعوجَ لنهاية الأشياء. فالحياة لها نهاية واحدة، وليست نهايات متعددة ومتكررة، تُقطِّع مراحلها وسنواتها، فتحبس على الناس الأمل والتغيير والتطور والاستمتاع بحياتهم.
كثيرة هي الأشياء التي نعتقد خطأً أن حياتنا تنتهي حين لا تتحقق لنا. فمَنْ لَمْ يتزوج قِيْل له: فاتكَ القطار، ويبتدعون لذلك أعماراً للزيجات، مرةً يُحدّدونها بعمر العشرين، ومرةً بالثلاثين، وأخرى بالأربعين، رغم أن التجارب علمتنا أن هناك مَنْ تزوَّج وهو أكبر من ذلك بكثير. والأهم من كل ذلك، أن عدم الاقتران بزوج أو زوجة، ليس نهاية الحياة.
نعم، الزواج أمر مطلوب للإنسان، لكن عدم حصوله لا يجعل نهاية لحياته، ولا يُحوِّلها إلى جحيم، ولا إلى طامَّة كبرى كما يعتقد البعض، ولا إلى مهلكة عظيمة كما يصوره آخرون، ولا يعني ذلك أن المرء سيعيش وحيداً فريداً وبوقت فائض، وأن اسمه لن يُذكر، فهذه كلها أوهام. فكم مِنْ أعزب ذُكِرَ اسمه أكثر من متزوج بسبب علم أو غيره.
فلم ينسَ الناس أبا عبدالرحمن البصري لأنه كان سيَّد النحو، ولم ينسوا أبا علي الجعفي لأنه كان علامة الكوفة، ولا شيخها هَنَّاد بن السَّرِيّ، ولا الإمام بِشْر الحافي، ولا المؤرخ الكبير أبا جعفر الطبري، ولا إمام النحو محمد بن القاسم الأنباري، ولا إمام العربية أبا علي الفارسي (ومعهم العديد من العالمات والأميرات على مر التاريخ) وكلهم جهابذة عاشوا وماتوا عُزَّاباً، لكن رغم ذلك حُفِرَت أسماؤهم في التاريخ.
ومن النهايات الأخرى الخاطئة في ثقافتنا هي أن مَنْ لم يُرزَق ذُرِّيَّةً يُنظَر له وكأنه بلا نِعَم ولا مسّرة، بل في مصاب جلل، لا مستقر له في بيته ولا قرار، فضلاً عن اعتقاده هو ذاته بأن نهاية حياته قد حانَت من دون الأولاد، في الوقت الذي لا ينبغي عليه أن يعتقد بذلك (رغم زينة الولد) لأن الحياة وأنسها والذِّكر بعدها لا يرتبط بوجود الولد من عدمه وحده.
ألم يُذكر العالِم الكبير إسحاق بن سليمان الإسرائيلي (الذي لم يكن له ولد) أزيد من ملايين البشر ممن كانت لديهم الأبناء والبنات والذرية الواسعة؟ وذلك بسبب غزارة علمه الذي شهدوا له من خلال كتبه الأربعة: كتاب الحميات وكتاب الأدوية والأغذية، وكتاب البول، وكتاب الأسطقسات؟ رغم مُضِي أزيد من ألف ومئة وستة عشر عاماً على وفاته!
كذلك، لم يكن لشيخ المفسِّرين أبي سعد الرازي ولد، ولم يكن للحافظ الأنماطي البغدادي ولد، ولم يكن للإمام الزمخشري الخوارزمي ولد، ولم يكن للإمام النحوي عبد الله بن الخشاب ولد، ولم يكن للإمام النووي ولد، لكن البشرية ظلت تذكرهم وتقدَّر عطاءهم.
أيضاً، من النهايات الوهمية لحياتنا، والتي فرضها العُرف والتفكير الخاطئ علينا، هي أن مَنْ يمرض مرضاً عضالاً، بِبَتر ساق أو فقد عين، يُنظر له بعطفٍ ممزوج بالشفقة، وكأنه جسد ميِّت لا أمل منه ولا رجاء، رغم أن التجارب أظهرت لنا أن ذلك غير صحيح، وأن المرض والإعاقة لم يكونا يوماً عائقاً أمام تألق البشر ووصولهم إلى أعلى المنازل.
ألمْ يقل الأطباء لستيفن هوكينغ عندما أصيب بمرض التصلب الجانبي الذي جعله كسيحاً وهو في الحادية والعشرين من العمر، بأنه لن يعيش أزيد من سنتين، لكنه اليوم يسير في الثالثة والسبعين من العمر، ويُعد من أشهر علماء الفيزياء في العالم.
بل أثبت هوكينغ وهو كسيح لا يقوى على الحركة، نظرية «الثقوب السوداء» وطوَّر بجانب آخرين نظرية «اللاحدود للكون»، وأصدر كتبه العلمية العميقة: «التاريخ الموجز للزمن» و»الكون» و»التصميم الكبير»، وهي كتب غيَّرت العديد من مفاهيم الفيزياء النظرية.
حتى الذين يفشلون في تحصيلهم العلمي لا يجب أن يعتقدوا أن حياتهم العلمية قد انتهت، بل إن فشلهم هو مجرد كبوةٍ ستتحوّل إلى خطوات في مشوار العلم. فكثير من العلماء، قد أبطأوا في تحصيلهم، إلى أن أصبحوا أعلاماً في عصرهم، وما تلاه من عصور.
ألْم يتأخر الإمام السكاكي في مشواره العلمي، لكنه لم يغادر الدنيا إلاَّ وقد عُدَّ واضع البلاغة. بل قيل فيه أن علومها أصبحت بعده «قائمة بذاتها، متميزة الموضوع، واضحة المنهج، قريبة المورد، واتية الجني، ثم جاء المتأخرون من بعده، فلم يستطيعوا أن يزيدوا عليه شيئاً من أصول البلاغة» كما جاء في محاسن التأويل.
الحقيقة، أن هذه الأمور يجب أن تكون معلومةً لدينا، وألاّ نُثقِل كاهلنا وكاهل الآخرين بتصورات خاطئة، تجعلنا نعيش أسرى ذاكرة سلبية، فتجعل يومنا كلّه هَمّاً وكَدَراً، بل علينا أن ننفتح على هذه الحياة بكل مباهجها التي توفَّرت لنا وبأذواق وأشكال مختلفة، بل وتشجّعنا على أن نبدع فيها بأشياء تجعلنا محل ذكرٍ واستحضار.
نعم، إن جاء الزواج فأهلاً به، وإن لم يأتِ لأسباب خارجة عن الإرادة فلا أسف، لأن الحياة ليست هي الزواج فقط، بل هو جزءٌ من الحياة لا أكثر. لذلك فإن الإنسان قادر على الاستمتاع بحياته في جوانبها الأخرى. أما أن يظل حبيساً لتلك الفكرة فهذا انتحار.
وهو أمر ينطبق على غيرها من الأمور: تنطبق على الولد وعلى الصحة، وعلى العلم وعلى المال. علينا أن نعيش وألاَّ نقتل أنفسنا ونحن أحياء. وكما قال الشاعر السوري الراحل محمد الماغوط: «إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، بل الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4569 - الأربعاء 11 مارس 2015م الموافق 20 جمادى الأولى 1436هـ
شكرا على المقال
كلام جميل و ملامس للواقع المرير (أفكارنا السلبية)
متابع . . . . لم لم تعرضوا اقتراحي للأستاذ محمد يا إدارة ؟
لم لم تعرضوا اقتراحي للأستاذ محمد يا إدارة ؟
موضوع رائع
موضوع رائع جدا
موضوع جميل
موضوع جميل جداً بارك الله فيك
متابع . . . . شكر
موضوع جميل و أجمل منه كاتبه
الا فات القطار ونص وبلا خيال واسع
شلون مايفوت القطار الحين واحد طاف الأربعين يصير يتزوج ويجيب اولاد بعد يعني اذا اذا ضم الخمسين. ولده توه في ابتدائي واذا تخرج ولده يكون هو تخرج من دار الدنيا .هههههههههه
رد
السيدة خديجة تزوجت بعد الاربعين
كلام جميل
كلام جميل جدا
من الاقوال المأثورة عن
الحافظ الخطيب البغدادي أنه قال في كتابه الجامع : ويستحب للطالب أن يكون عزباً ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجية وطلب المعيشة عن اكمال الطلب
تعليق
وكذلك كان هناك حث على الزواج