العدد 456 - الجمعة 05 ديسمبر 2003م الموافق 10 شوال 1424هـ

بوش ونابليون

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى أيامنا لا تزال الكثير من الأقلام تشير الى أن بداية «النهضة العربية» الحديثة انطلقت مع حملة نابليون على مصر. وهناك اتجاهات ايديولوجية تصر على أن تلك الحملة نقلت معها «الحداثة» من أوروبا الى المشرق العربي.

هذه الاتجاهات تذكر الى حدٍّ كبير بتلك المناهج الايديولوجية التي تربط «العمران» بالاستعمار، وترى أن الحملات المتكررة التي تعرضت لها المنطقة من أوروبا وأخيرا من الولايات المتحدة هي لصالح العرب في النهاية.

يقول ابن خلدون في «مقدمته» إن الحاضر شاهد على الماضي. فهل صحيح أن الحملة الأميركية مثلا على العراق ومنه على المنطقة ستكون بداية «فجر جديد» ستشهد بعدها الدول العربية نهضة كتلك التي عرفتها في فترة الحملة الفرنسية على مصر ومنها على فلسطين؟

هناك الكثير من الروايات التاريخية لتلك الحملة، إلا أن معظمها يغيّب الدافع الداخلي الفرنسي ودور الصراع على زعامة أوروبا وبالتالي العالم آنذاك في حفز نابليون للتخطيط لحملته. كذلك تغيّب تلك الروايات (معاصرة في معظمها) انعكاسات الحملة على المشرق وكيفية استقبال الناس لها في فترة كانت مصر لا تزال تابعة خلالها للسلطنة العثمانية.

هذه الروايات التاريخية الناقصة يمكن أن نقرأ بعض تفصيلاتها السياسية في روايات مشابهة، يقول بها البعض عن تأثيرات حملة جورج بوش وانعكاسات الاحتلال الأميركي على العراق. فالإراء «الحداثية» ترى ان هذا الهجوم يصب في النهاية لمصلحة الشعوب العربية التي وصلت الى حال من اليأس لا تخسر فيه شيئا في حال ضرب الاستقرار وحطمت الدول وتغيرت الأنظمة. فالشعوب أصلا هي خاسرة وبالتالي لماذا لا تجرب حظها ثانية لعل في الاحتلال الأميركي بعض الخير للمنطقة؟

هذه التحليلات الايديولوجية التي تفترض وجود حال من الشر المطلق يقابله احتمال ظهور نوع من الخير المطلق تحتاج الى تدقيق سياسي لمعرفة الأسباب الحقيقية التي حفزت دولة كبرى كالولايات المتحدة لوضع استراتيجية تقوم على ثلاثية عسكرية: الأولى الحروب الدائمة والثانية الضربات الاستباقية والثالثة تغيير الأنظمة بالقوة. هذه الثلاثية العسكرية تفترض وجود منطق يربطها، وهذا المنطق لا نجده في المنطقة بل في العوامل الداخلية التي تمر بها الولايات المتحدة، وبالتالي صلة تلك العوامل بالصناعات العسكرية وحاجتها الى الطاقة، مضافا اليها صراع الولايات المتحدة مع منافستها أوروبا وكذلك الصين.

هذه العوامل المركبة الداخلية والدولية نجد ما يذكر بها حين قررت فرنسا (نابليون) تنظيم حملتها على مصر ومنها على المشرق العربي. فآنذاك كانت فرنسا (الجمهورية) تعيش حالات قلق داخلي وتوتر مع مجموعة الدول الأوروبية لأسباب مختلفة منها له صلة بأفكار الثورة الفرنسية، ومنها له صلة بدور فرنسا القيادي في أوروبا، ومنها له صلة بالتنافس الفرنسي - البريطاني على زعامة أوروبا، وبالتالي السيطرة على البحار والمحيطات والمستعمرات وهو أمر آل أخيرا الى بريطانيا، إذ نجحت في تسجيل سلسلة انتصارات بحرية وبرية انتهت كلها بانتزاع بريطانيا الموقع الأول في قيادة العالم الى فترة طويلة لا تقل عن مئة عام.

مصر، لم تكن بعيدة عن تلك الصورة السياسية المركبة من عشرات العناصر المتداخلة. إذ بعد حملة نابليون ستشهد المنطقة سلسلة غزوات ستنتهي الى دفع المنطقة الى قلب الصراع الدولي في مرحلة لم تكن مستعدة لاستقبال مثل هذا النوع المتطور من المواجهات. كذلك ستقع مصر وبعدها السودان وبعدها اليمن (باب المندب) كلها في دائرة النفوذ البريطاني الذي نجح في طرد فرنسا وإعادة الاستيلاء على معابر المرور البحرية التي كانت لندن بحاجة إليها. فبريطانيا بعد هزيمة نابليون في أوروبا نجحت في طرد فرنسا من مصر والتحكم في المنافذ الاستراتيجية العابرة من المحيط الاطلسي الى البحر المتوسط (جبل طارق) ومن المتوسط الى البحر الأحمر (قناة السويس) ومن الأحمر الى المحيط الهندي (ميناء عدن) وصولا الى عمق آسيا (الهند والصين).

ابن خلدون قال في «مقدمته» ان الحاضر شاهد على الماضي، كذلك يمكن القول إن الماضي شاهد على الحاضر. فهل صحيح ان نابليون جلب معه «الحداثة» الى المنطقة؟ فإذا كان الأمر صحيحا فمعنى ذلك ان بوش سيجلب معه «حداثة ثانية». أما إذا كان الجواب خطأ، فمعنى ذلك ان المنطقة وقعت مجددا في مصيبة كبرى. والفصل في النهاية للوقائع التاريخية لا للرغبات الايديولوجية. فماذا تقول شواهد التاريخ؟

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 456 - الجمعة 05 ديسمبر 2003م الموافق 10 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً