عقد المؤتمر الدولي لطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين في الفترة 11 - 12 فبراير/ شباط 2015، بدعوةٍ من أكاديمية الصين للعلوم الاجتماعية، وبعض المؤسسات الرسمية الصينية، وشارك فيه أكثر من 300 مشارك. وقد سجلت في المقال السابق (السبت 21 فبراير 2015) عدداً من الملاحظات والمشاهدات من واقع المؤتمر، وأستعرض في هذا المقال ملاحظات أخرى.
أولاً: في تقديري إن مشكلة بعض المشاركين من بعض الدول، هو الانحشار الفكري في التاريخ القديم وتجارب مناطق معينة في التوسع والاستعمار دون التفكير بصورة إيجابية في المستقبل، وإنّما الاستناد للماضي وتذكر مشاكله وشروره وليس مجرد أخذ العبرة منه، والعمل على العيش المشترك في إطار النظرة المستقبلية. فبعض أحداث التاريخ إذا تم استدعاؤها من الماضي يمكن أن تغذي النظرة السلبية في علاقات الدول خصوصاً تلك التي كانت بلادهم دولاً عظمى ثم تدهورت بسبب الصراعات الدولية، فيظلون يتذكرون بحسرة وأسى ما كان لدولهم من حضارة عريقة، غير مدركين أن مختلف الحضارات سادت ثم بادت، أو ازدهرت ثم تراجعت، أو كما يقول المثل: شهدت عصور الانتصار والازدهار ثم عصور الانكسار والانحسار.
ثانياً: إن طريق الحرير البحري يواجه عدة مشاكل، منها مخاطر القرصنة في مضيق هرمز وملقا وخليج عدن وقبالة الساحل الصومالي، كما توجد مشاكل التنازع حول بحر الصين الجنوبي، ومشاكل الحسابات السياسية في جنوب آسيا، والصراعات وعدم الاستقرار في بعض دول الشرق الأوسط، وهذه قضايا تحتاج لمعالجة جذرية. ولتنازلات متبادلة ورؤية مستقبلية على أساس الكسب المشترك أو ما اصطلح على تسميتهWin- Win Game.
إن بعض الدول وخصوصاً تايلند، تنظر إلى المستقبل، والتفكير الجاري حالياً في بعض مراكز اتخاذ القرار بإنشاء قناة تربط بين بعض دول المنطقة، ومن ثم تتجاوز القرصنة في مضيق ملقا، وهذا ربما يؤثر على بعض الدول المجاورة، ما يستدعي التوصل لتفاهم بين دول جنوب شرق أسيا، خصوصاً سنغافورة، في إطار تجمع «الآسيان».
ثالثاً: أشارت بعض المداولات إلى أن المكاسب الناجمة عن طريق الحرير البحري أكبر من المخاطر والتحديات القائمة أو المتوقعة. وهذا ما يجعل مختلف الدول في جنوب شرق آسيا بما في ذلك الفلبين، التي لها مشاكل مع الصين في بحر الصين الجنوبي رغم تحفظاتها، ترغب في الارتباط بالمشروع للإستفادة من صندوق الاستثمارات الصينية في البنية الأساسية في بلادهم، وحتى لا تكون منعزلة سياسياً.
رابعاً: ركّز الصينيون في دراستهم للماضي على أخذ العبر والاستفادة من دروسه والعمل من أجل المستقبل، كما أكد الصينيون على أن مشروع طريق الحرير البحري ليس ضد أحد ولا يرغب في استعداء أية دولة، وأن المشاركة فيه مفتوحة للجميع.
في الكلمة التي ألقيتها في الجلسة الافتتاحية الرسمية، - والتي كانت الكلمة الرئيسة الثانية بعد مداخلات قادة الصين الثلاثة- ركّزت على أهمية طريق الحرير للمنطقة العربية والعلاقات العربية الصينية، وعلى دور الرحالة العربي المغربي ابن بطوطة (1304-1377م/ (703-779 هـ) في إرساء العلاقات مع تلك المدينة العظيمة، التي وصفها في كتابه «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، بأنها «أعظم مدن العالم»، ولم ير مثلها قط، وأن هذه العبارة محفورة على لوحة في المتحف العربي في مدينة «شوانجو»، بإقليم فوجيان. كما إن المسلمين العرب جاءوا تجاراً للمدينة منذ عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان (رض)، وأول مبعوث صيني للعالم الخارجي كان بعد توحيد الصين في عهد أسرة هان الملكية التي وحدت الصين لأول مرة العام 221 قبل الميلاد. وقد ذهب المبعوث الصيني للإسكندرية عاصمة مصر في العهد البطلمي، والتقى مع الملكة حتشبسوت وحصل على عدد من السلع المصرية والخبرة العملية في الألوان الثابتة وفي صناعة الزجاج الملون المعشق، وهو ما لم تكن لدى الصين خبرة فيه آنذاك.
وذكرت بأنه في عصر الدولة العباسية وفي عصر أسرة تانج وقبلها سونج، ازدهرت التجارة بين العالم العربي الإسلامي وبين الصين، وأخذ طريق الحرير البحري فرعين رئيسين، أحدهما كان يمر عبر الخليج العربي ورست السفن في أكبر ميناءين آنذاك، وهو ميناء مسقط وميناء البحرين، ثم إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية. أما الفرع الثاني فاتجه نحو بحر العرب وخليج عدن، ثم انقسم إلى فرعين أحدهما دخل إلى البحر الأحمر ومدينة السويس ومنها في قناة «سيزوستريس» الفرعونية إلى نهر النيل ثم رشيد ودمياط، وعن طريق البر إلى الإسكندرية وأصبحت القناة تسمى قناة أمير المؤمنين في العهد الإسلامي، وكانت تربط بين مدينة السويس وبين نهر النيل. أما الفرع الثاني فاتجه إلى شرق أفريقيا، حيث الأسطول التجاري الصيني بقيادة البحار «جانج خا» الذي قاد أسطوله سبع مرات للمنطقة.
وأضفت بأن قناة السويس الجديدة التي أطلقتها مصر في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي تمثل أحد أطراف المبادرة الثلاثية المعاصرة للقرن الحادي والعشرينThe Trio Initiative ، وهي قناة السويس الجديدة، وطريق الحرير البري وطريق الحرير البحري. فأواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين شهد انطلاقة دول مجلس التعاون الخليجي حيث الموقع الاستراتيجي والثروة النفطية والسوق الواعدة والإمكانيات المالية تعد في القرن الحادي والعشرين من أهم ركائز العلاقات العربية الصينية، ما جعل التجارة الصينية لدول الخليج العربية تحتل المركز السابع في تجارة الصين الخارجية كلها، والتجارة الخليجية للصين تحتل المركز السادس في تجارة دول الخليج مع العالم.
وقد حظيت هذه المداخلة باهتمام كبير من قادة الصين الحاضرين ورجال الإعلام والفضائيات في جنوب الصين، حيث أجرِيَت معي عدة مقابلات لفهم كثير من الأفكار التي طرحتها.
يعد المتحف العربي الإسلامي في مدينة شوانجو، أحد روائع التراث العربي الصيني، وهو متحف حديث ساهمت فيه سلطنة عمان بقيادة جلالة السلطان قابوس ودولة الإمارات العربية المتحدة بقيادة الشيخ زايد بن سلطان رئيس الدولة آنذاك رحمه الله، وكان ذلك دليلاً رائعاً ومصدر فخر للعلاقات بين الصين والعرب، حيث نقلت إليه كثير من الآثار العربية التي تعد خير دليل على العمل التجاري السلمي بين الطرفين، حيث كان التجار العرب آنذاك هم سادة البحر، وهم المرشدون للملاحة في البحار.
وفي اعتقادي أنه من الضروري للغاية مساهمة الدول العربية وخصوصاً دول الخليج العربية ومصر واليمن، في طريق الحرير البحري الذي يمر عبرها أو في مياهها الإقليمية، خصوصاً أنها طريق التجارة بين الشرق والغرب وبين الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم، ومؤهلة لكي تصبح القوة الاقتصادية الأولى في غضون سنوات قلائل.
أما مصر، وبوجود قناة السويس (1869) والقناة الجديدة (2014)، فهي تمثل أهم ممر مائي دولي يربط بين الشرق والغرب، وهو ممر مائي مرتبط بطريق الحرير منذ القدم وجاء حفر قناة السويس الثانية في توقيته المناسب ليتماشي مع مبادرة طريق الحرير البحري.
وفي الختام نقول إن الصين هي القوة الصاعدة التي تبحث عن حلول مبتكرة لمشاكلها وتحدياتها الاقتصادية، سواء في الحاضر أو من أجل بناء المستقبل، وتركز على الماضي لأخذ العبرة. ولعل أهم الأفكار التي تركز عليها الصين هو مفهوم التناغمHarmony والوفاق والقوة الناعمة Soft Powerفي علاقات الدول، ومفهوم المكاسب المتبادلة وليس سيطرة قوة على غيرها. وهذا أمر يستحق اهتماماً عربياً في عصر يجري فيه عمداً تهميش الدور العربي والتركيز على سلبياته، بدلاً من التفكير الايجابي البناء حول مساهمته القديمة في بناء الحضارة، ومساهمته الحالية من جهة الطاقة ورؤوس الأموال في بناء الاقتصاد العالمي المعاصر، بل والمستقبل الواعد، رغم التحديات الكبيرة التي تواجه العرب في هذه المرحلة، ورغم التشويه المتعمد لصورة العرب والإسلام والمسلمين في الوقت الحاضر. ولكن الحقيقة سوف تنكشف وتظهر الصورة الصحيحة، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، ويحق الله الحق بكلماته، وهو على كل شيء قدير. وسوف تنجلي الغمامة التي ساهم في نشرها كتاب مسيّسون رغم كونهم علماء أمثال برنارد لويس، وصامويل هنتنجنتون في أطروحته عن صراع الحضاراتCLASH OF CIVILIZATIONS وفي نظرته للحضارتين العربية الإسلامية والحضارة الصينية بأنهما أكبر الحضارات تحدياً للحضارة الغربية، وتجاهله لمفهوم عدم أبدية أية حضارة، وأن الحضارة العالمية الراهنة ليست حضارة الغرب فقط بل هي تراكم حضارات وإنجازات البشرية جمعاء عبر عصور التاريخ.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4559 - الأحد 01 مارس 2015م الموافق 10 جمادى الأولى 1436هـ