اتخذ الحراك السياسي العراقي بعدا جديدا على خلفية الجدل القائم بين القوى السياسية المختلفة سواء تلك الممثلة داخل مجلس الحكم او تلك المعارضة للمجلس وذلك على خلفية اتفاق بريمر - طالباني المتعلق بنقل السلطة الى العراقيين بحلول يونيو/ حزيران المقبل. وجاء موقف المرجع الديني الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني الرافض للخطة المعلنة لاتفاق نقل السلطة ليزيد من زخم هذا الحراك ويعيد رسم خريطة المواقف السياسية لنخب كثيرة في المجتمع فضلا عن القوى والأحزاب السياسية.
وعلى رغم محاولات البحث عن صيغ للاتفاق فإن الوضع في داخل مجلس الحكم مازال يسوده الانقسام، وكان مجلس الحكم الانتقالي قد شكل لجنة تضم تسعة من اعضائه لدراسة الطروحات التي أبداها المرجع الاعلى السيستاني بخصوص وضع الدستور ونقل السلطة الى العراقيين.
وتكشف تصريحات اعضاء المجلس على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم أنهم متفقون على المبادئ التي حرص السيد السيستاني على تأكيدها غير أنهم بحسب أحد أعضاء المجلس يختلفون في ان «هناك بعض العقبات تحول دون اجراء الانتخابات الشاملة»، من بينها الحاجة الى تعداد سكاني وعودة المهجرين واعادة الجنسية إلى الذين اسقطت عنهم بسبب معارضتهم النظام السابق، وبالتالي فان الاعتماد على البطاقة التموينية يعني حرمان ما يقرب من ثلاثة ملايين من المهاجرين ونحو نصف مليون ممن حرمهم النظام السابق من الجنسية العراقية والمعارضين العراقيين الذين أسقطت عنهم البطاقة التموينية.
وهناك أفكار يتم تداولها لاجراء صيغة انتخابات تكون مقبولة، كأن تجرى انتخابات لمجالس البلديات ومجالس المحافظات بما يؤمن قاعدة تمثيل اوسع لآلية نقل السلطة. لكن مثل هذه الصيغة قد لا ترضي المرجعية الدينية، ولا سيما ان السيد السيستاني ومنذ 9 يونيو اعلن في فتوى مكتوبة ضرورة ان يكون المجلس الذي يعد الدستور العراقي منتخبا عبر انتخابات عامة حرة ومباشرة. وأتت التطورات الأخيرة لتثبت أن الرجل لم يغير موقفه اطلاقا وهو في هذا الموقف انما يعبر عن مصلحة عامة كما يجمع معظم العراقيين على اختلاف انتماءاتهم على تأييدها.
لذلك فان هناك اتجاها داخل المجلس وخارجه صار ينادي بالخروج من هذه العقبة عبر صوغ دستور مؤقت.
وبحسب المعلومات المتداولة والطروحات التي بدأت تكشف عنها الطبقة السياسية، فالواضح ان الموقف الذي اعلنه السيد السيستاني صار بالنسبة إلى البعض غطاء لتحقيق مطالب معينة او الحفاظ على مكاسب تحققت له خلال الاشهر السابقة. ووفقا لمصادر داخل مجلس الحكم وخارجه، فان المجلس الاعلى للثورة الاسلامية ومعه الاحزاب الاسلامية الشيعية الاخرى وان كانت تشير الى ان خطة نقل السلطة تتجاهل مبادئ الاحتكام الى الإسلام والسيادة الجماهيرية، فإنها في واقع الامر تعترض لتجاوز مبدأ المحاصصة التي بنيت عليها المرحلة الراهنة سواء في تشكيل مجلس الحكم او الوزارة التي حظي الشيعة باعتماده على الغالبية التي تتناسب وعددهم في المجتمع العراقي. ولذلك فإنهم يسعون الى تثبيت نظام المحاصصة ونقله الى المجلس الوطني التأسيسي. في المقابل فان الاحزاب السنية الاسلامية الذي ظلت معترضة على نسبتها في مجلس الحكم وفي الوزارة تريد ان يتم تعويضها في المجلس التأسيسي، وهي تثير في اطار سعيها هذا انها غبنت ولا سيما وانها تشكل «الغالبية المتنورة في البلاد»، وبالتالي فان معارضتهم لخطة نقل السلطة ينبع من الاعتقاد بأنه ما لم يتم تصحيح الخطأ الذي حصل وصار يغذي حال التمرد الواسع في المناطق السنية، فان الأوضاع لن تستقر. وفي اطار حركتها وتعبيرها عن مواقفها صارت الى المساومات وممارسة الضغوط، وتردد الحديث عن أن استقالة عضو مجلس الحكم رئيس الحزب الاسلامي محسن عبد الحميد من المجلس لم يكن سوى ورقة ضغط للمساومة في هذا الصدد.
بدوره الموقف الكردي وتحفظاته على خطة نقل السلطة ينبع من محاولة الضغط للحصول على فيدرالية على أساس قومي وليس على اساس اداري.
وفي المقابل فان قوى سياسية وطنية واخرى ذات توجهات قومية ترى في أن خطة نقل السلطة تتجاهل قضية انهاء الوجود العسكري الأميركي وان الخطة تتضمن إدراكا مشتركا لدى مجلس الحكم وسلطة الاحتلال بتوفير ضمانات لاستمرار هذا الوجود العسكري حتى بعد نقل السلطة، بل واحتمالات تحويل المؤقت الى وجود دائم وفق ما أشيع في خمس قواعد عسكرية رئيسية.
المهم في اطار هذا الحراك السياسي ومحاولة أطرافه تحقيق اهدافها صار ينتقل الجدل الى العلن وصار يكتسب روحا خلافية، لتبرز معه ملامح نفور أميركي من بعض القوى السياسية التي ظلت حتى وقت قريب متوافقة او قريبة من التوجهات الاميركية. وهكذا صارت قوى سياسية ممثلة في مجلس الحكم تدعو الى دور اكبر للامم المتحدة بل والطلب من الولايات المتحدة التخلي عن دورها لصالح الامم المتحدة. بل ورأينا القوى الشيعية مثل المجلس الاعلى تتحرك باتجاه احزاب قومية ووطنية وتتبنى طرحها في مسألة الشق العسكري للاحتلال الاميركي. وتقوم قوى سياسية أخرى مثل الحزبين الكرديين والحزب الشيوعي واحزاب اخرى ببلورة قواسم مشتركة من أجل مواجهة استحقاقات المرحلة الانتقالية. وفي المقابل فان تيارت مثل الوفاق الوطني والمؤتمر الوطني تخوض مقتربات ومساومات تقربا من سلطة التحالف وتاثيرا على قوى سياسية اخرى. وحاولت الحركة الملكية الدستورية ان تستثمر موقفها المعارض من مجلس الحكم لتقنع مؤتمر العراق الذي يضم 118 حزبيا بإرسال كتاب ترشيح لراعي الحركة الملكية الدستورية الشريف علي بن الحسين ليصبح رئيسا للمجلس الانتقالي، في وقت لم يشكل المجلس ومازال النقاش جاريا بشأن الاسس التي يتم انتخاب او اختيار الاعضاء الذين يكونون المجلس.
وتجرى التحركات في أوضاع يزداد فيها التدهور الامني والمعيشي لغالبية الاوساط الشعبية ليكرس لدى المواطن حالا من الاحباط والشعور باليأس، الامر الذي يوفر تربة خصبة لتنامي التمرد. فيما يشكل الاستحقاق الانتخابي للرئاسة الاميركية عامل الضغط على الادارة لسحب معظم قواتها قبل الخريف المقبل، وهذا ما قد يعمق من الفوضى ليتحول العراق الى صومال أخرى وسط اجواء يمكن أن تمهد الطريق إلى وصول فئات وقوى متطرفة للتحكم في الساحة السياسية العراقية
العدد 455 - الخميس 04 ديسمبر 2003م الموافق 09 شوال 1424هـ