يجري الحديث بحذر شديد بشأن حرب فيتنام، ويعود هذا الحذر إلى أن حرب فيتنام نشأ عنها فيروس حرب فيتنام وعقدة حرب فيتنام التي لم يتحرر الأميركيون منها بصورة تامة حتى اليوم. ويدفعهم إلى الماضي الأليم استمرار حرب العراق والعدد المتزايد للجنود الأميركيين القتلى الذين تحملهم طائرات النقل عبر ألمانيا إلى مختلف البقاع الأميركية. وقد زاد الضغط على الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش إذ يزيد عدد الأميركيين الذين يطالبون بانسحاب القوات الأميركية من العراق. على رغم أن الأقلية منهم يتظاهرون في الشوارع وينددون بالحرب وذلك بعد مضي ثلاثين عاما على نهاية حرب فيتنام، إلا أن عددهم يزداد مع كل يوم يسقط فيه جنود أميركيون على أرض فيتنام جديدة. غير أن الخبراء يخشون أنه في حال انسحاب الأميركيين ستعم الفوضى أراضي العراق وستقوم حرب أهلية ويقول بيتر شول لاتور خبير الشرق الأوسط الذي سبق وأن عمل مراسلا حربيا خلال حرب فيتنام: لقد قلت قبل الحرب وأكرر ما قلته بعد الحرب: بعد صدام حسين لن يعم السلام في العراق. يدرك هذا الخبير الألماني ما يقوله جيدا. ففي مطلع العام الحالي زار بغداد وحذر في تقاريره لحساب محطة التلفزة الأولى من وقوع الحرب ويقول اليوم بعد مضي نصف عام على إعلان الرئيس بوش نهاية المعارك العسكرية الرئيسية: القوات الأميركية متورطة في حرب مقاومة ضد أطراف مدفوعة سياسيا وعقائديا ووزارة الدفاع الأميركية ليس لديها سياسة مواجهة بل تقف حائرة أمام وضع لم تضعه في حسابها قبل الحرب.
في العام 1975 مر بيتر شول لاتور في تجربة مماثلة في فيتنام. وكان السؤال البارز: كيف سيكون رد فعل الشعب الأميركي على حرب فيتنام التي بدأت وليس ما يشير إلى قرب نهايتها فيما يتحتم على القوات الأميركية الاستمرار بها من الجو والبر والبحر؟ يجد شول لاتور اليوم مناسبة للمقارنة بين حرب فيتنام وحرب العراق ويقول: لم يضع ثوار الفيتكونغ وكذلك فيتناميو الشمال في حسابهم أنهم سينتصرون على الأميركيين، لكنهم عمدوا إلى إطالة زمن الحرب كي يوحوا للشعب الأميركي أن هذه الحرب طويلة الأمد وأنها تكلف المال الكثير وفي نهاية المطاف لن تأتي بنتيجة مفيدة على الولايات المتحدة. كما يلاحظ بيتر شول لاتور وجود تشابه كبير في مضمون تصريحات وزير الدفاع الأميركي خلال حرب فيتنام، روبرت ماكنمارا وتصريحات وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد. في ذلك الوقت العصيب قال ماكنمارا: سنبقى مدة طويلة في فيتنام وسنقوم بمهام كبيرة حتى نقضي على المقاومة الشيوعية. كذلك صرح رامسفيلد متوعدا بالنصر: إننا نستطيع كسب الحرب وسنكسبها وأضاف: يملك الرئيس بوش جميع الأسباب للمضي في ملاحقة الإرهابيين والبلدان التي توفر الدعم لهم حتى نحقق النصر في هذه الحرب.
يجد بيتر شول لاتور المقارنة بين وزير الدفاع الأسبق ماكنمارا ووزير الدفاع الحالي رامسفيلد مفزعة وقال: كلاهما تبنى سياسة تقوم على الاعتقاد أنه يمكن بواسطة السبل التقنية تحطيم إرادة الخصوم. وقد رمى الأميركيون كميات من القنابل على فيتنام يزيد عددها عن عدد القنابل التي تم رميها خلال معارك الحرب العالمية الثانية. وفي العراق استخدم الأميركيون لأول مرة قنابل يبلغ وزن الواحدة منها تسعمئة كيلوغرام. لكن على رغم من بطش القنابل الأميركية صمد ثوار فيتنام رغم أنهم استخدموا أسلحة متواضعة في مواجهة القوة العظمى التي على غرار حرب فيتنام، اعتمدت وما زالت تعتمد على تفوقها العسكري التكنولوجي في حرب العراق. يوضح بيتر شول لاتور أنه حين رأى صور الجنود الأميركيين وهم يرتدون بزات خاصة، تذكر على الفور أحد الأفلام الدعائية التي روجتها وزارة الدفاع الأميركية في الماضي يظهر فيها جندي المستقبل، المزود بمعدات إلكترونية حديثة تساعده في مراقبة كل زاوية حوله كما بوسعه إطلاق النار بدقة على كل هدف. ويخيل لمن شاهد هذا الفيلم الدعائي أن وزارة الدفاع الأميركية تريد أن تقول إن الجندي الأميركي عبارة عن الرجل الخارق - سوبرمان - لا يمكن لأحد الوقوف أمامه، وأنه رجل آلي إشارة إلى بزته ومعداته الخاصة.
غير أن الأنباء التي تخرج من بغداد يوما بعد يوم توضح خصوصاَ منذ مطلع شهر نوفمبر/تشرين ثاني الماضي أن الفشل الذي واجهه الجنود الأميركيون في فيتنام، يتكرر في العراق. ويقول بيتر شول لاتور إن الأميركيين اعتمدوا في حرب العراق على دعاية تم تداولها خلال حرب فيتنام. في تلك الحرب روجوا بأنها حربا ضد الشيوعيين. وفي حرب العراق وقف الصالحون الأميركيون في مواجهة الأشرار. ويؤكد الخبير الألماني في حديثه أن الأميركيين أساءوا تقدير الأمور في العراق لأنهم أتوا وهم يتصورون أن هناك في الحقيقة أناسا صالحين وأناسا طيبين وهذا ما توهموه سابقا في فيتنام ما حال دون قدرتهم على التفرقة بين القوميين الفيتناميين والشيوعيين الذين كانوا يخوضون حربا عقائدية وعلى أتم الاستعداد للتضحية بحياتهم دفاعا عن هذه العقيدة.
في العراق، يرى الأميركيون اليوم أن المقاومة الشرسة التي تواجههم، وراءها الرئيس السابق صدام حسين، لكنهم لا يرون بوضوح الحماس المتزايد للإسلاميين وفئات عراقية أخرى بعد أن تغيرت نظرة العراقيين للاحتلال علما أن المواطنين العراقيين لم يستقبلوا الغزاة بالورود مثلما خيل للاستراتيجيين الأميركيين الذين وضعوا في حساباتهم استنادا على تصورات واهية من طرف أحمد جلبي رئيس المجلس الوطني العراقي الذي كانت ترعاه السي آي إيه. يحكم الرئيس بوش على الوضع كالآتي: كلما تم تحقيق تقدم في عملية إعادة الإعمار كلما زادت حيرة خصوم قوات التحالف الذين على حد قوله يبغضون الديمقراطية والمجتمعات الحرة، وهم يفضلون الإرهاب وزرع الخوف في نفوس الناس ونحن عازمون على المضي بطريقنا دون أن تؤثر فينا تهديدات هؤلاء القتلة.
يرى بيتر شول لاتور أن رأي الرئيس الأميركي خاطئ أيضا وقال: الواضح أن الأميركيين تنقصهم الوسيلة لفهم طبائع خصومهم العراقيين ويتمسكون بنظرتهم الضيقة للأمور وهذا ما يتميز به المبشر بوش عن سائر الذين سبقوه في منصبه. إنه واثق بأن النموذج الأميركي يخدم مصالح العالم اقتصاديا وسياسيا. ولا يريد بوش أن يفهم لماذا ترفض ثقافات أخرى في العالم النموذج الأميركي فيما الصقور الذين يعملون حوله في واشنطن يرسمون له على الدوام صورة جميلة للعالم الذي يعمل بوش في تأسيسه في إطار سياسة يراها الناقدون بأنها سياسة إمبريالية. يقول بيتر شول لاتور أنه ينبغي على الأميركيين أن يوضحوا للعراقيين وللعالم أن وجودهم في العراق كمحررين أو كمحتلين؟ يضيف الخبير الألماني: في فيتنام نجح الأميركيون في كسب تأييد فئات كبيرة من الشعب الفيتنامي خصوصا من الكاثوليك الذين كانوا يناهضون بقوة الشيوعيين في هانوي. في فيتنام أيضا حاول الأميركيون تشكيل حكومة لكن محاولتهم باءت بالفشل. في العراق أيضا هناك صعوبة في ممارسة مجلس الحكم الذي عين الأميركيون فيه 25 عضوا تم اغتيال واحد منهم ولا يجرؤ أي من أعضاء المجلس على الظهور بين المواطنين خشية التعرض للاغتيال. ويرى المواطنون في العراق أن أعضاء المجلس دمى يحركها بول بريمر رجل بوش في العراق.
هل الوضع في العراق أشد خطورة عما كان عليه في فيتنام؟ يجيب بيتر شول لاتور على هذا السؤال المهم: نعم بل أسوأ بكثير من حرب فيتنام التي انتهت بانتصار الولايات المتحدة لكنه كان نصرا متوقعا في نهاية مشوار دام طويل لكن الولايات المتحدة خرجت مثقلة بالجراح من هذه الحرب رغم أن الجنود الأميركيين لم يخسروا معركة واحدة لكن معظمهم عاد بأعصاب محطمة إلى بلده وهذا ما سيواجهه الجنود الأميركيون في العراق. هناك فارق في المقارنة بين حرب فيتنام وحرب العراق. لأول مرة منذ انفرادها بلقب القوة العظمى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لم تظهر الولايات المتحدة قوة عظمى في حرب العراق وإنما قوة كبيرة على عكازين
العدد 454 - الأربعاء 03 ديسمبر 2003م الموافق 08 شوال 1424هـ