على رغم ان الصحف العبرية ومواقف المعلقين عكست أجواء «الزحمة» اللافتة إلى مبادرات سلمية لحل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني وخصوصا في الوسط الإسرائيلي، فبعد «وثيقة سويسرا» وخطة «صوت الشعب» التي أطلقها الرئيس السابق لجهاز الأمن العام الإسرائيلي «الشاباك» عامي أيالون والأستاذ الجامعي الفلسطيني سري نسيبة وخطة حزب «شينوي» العلماني المشارك في الائتلاف الحكومي، أطلق حزب العمل الإسرائيلي المعارض خطة جديدة تستند إلى انسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967 وتدعو إلى إقامة دولة فلسطينية عليها، وتشدد على أن تكون القدس عاصمة للدولتين مع احتفاظ «إسرائيل» بالسيادة على الأحياء الاستيطانية في القسم الشرقي من المدينة وتستبعد الاعتراف بـ «حق العودة» للاجئين الفلسطينيين وأبنائهم، فإن أنظار المعلقين اتجهت إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون مع إعلان رفضه القاطع لمطالب رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع (أبوالعلاء) لبناء الثقة التي كان أعلنها لاستئناف الحوار بين الجانبين، وتشمل وقف بناء الجدار العازل والأنشطة الاستيطانية، ورفع الحصار عن ياسر عرفات.
وأجمعت الآراء على ان هذا الكم من المبادرات يعكس السعي إلى إيجاد مخرج للمأزق الذي تمر به «إسرائيل» في ضوء غياب حل للنزاع مع الفلسطينيين. لكن كل ذلك منوط بما يريده شارون وبموقفه الذي لايزال يلفه الغموض. إذ جدد شارون هجومه على «وثيقة سويسرا» معتبرا انها تضر بـ «إسرائيل» وانها «خطأ»، وكرر تهديده بإجراءات من جانب واحد «إذا اقتنع بألا جدوى من انتظار إجراءات من الحكومة الفلسطينية». ولمح إلى إمكان الانسحاب من بعض الأراضي المحتلة قائلا: «من الواضح اننا في نهاية الأمر لن نبقى في كل الأماكن التي نحن فيها الآن. لكننا نسرع في (بناء) الجدار ولن نوقفه لأنه ضروري لأمن إسرائيل». لكن مع ذلك، أوفد شارون نجله أومري إلى لندن لإجراء محادثات سياسية مع مستشار الرئيس الفلسطيني لشئون الأمن القومي جبريل الرجوب في ندوة غير رسمية عن السلام ترعاها الحكومة البريطانية. وقال المسئول في وزارة الخارجية الإسرائيلية وأحد المشاركين في الندوة جدعون مئير: «الهدف هو إيجاد ثقة ومناخ أفضل بين الإسرائيليين والفلسطينيين». وصرح الرجوب بأن شارون يجب أن يتخذ قرارا بما إذا كان حقا يريد الأمن أو الاستمرار في احتلال أراض فلسطينية. وفي خط مواز لمناقشات لندن أشارت «هآرتس»، في خبر افتتاحي، إلى ان اللقاء الذي سيعقد يوم الأربعاء المقبل في بريطانيا بين مسئولين إسرائيليين وفلسطينيين، وأبرزهم نجل شارون أومري شارون، والرجوب، هو في الحقيقة غطاء للقاء سيجمع أومري ومبعوث للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات. ونقلت الصحيفة العبرية عن مصادر فلسطينية رفيعة المستوى ان اللقاء الأخير تقرر بناء على طلب أومري إلى رجل الأعمال الفلسطيني وأحد المقربين من عرفات، محمد رشيد، المعروف باسم (خالد سلام) الذي زار رام الله حديثا بعد غياب طويل عن الأراضي الفلسطينية بحسب ملاحظة الصحيفة العبرية، التي أكدت مصادرها ان أومري شارون أوصى بأن يجري لقاء بين مسئولين فلسطينيين وإسرائيليين في بريطانيا غطاء للقاء السري بينه وبين رجل الأعمال الفلسطيني محمد رشيد. وبناء عليه قرر عرفات أن يوفد جبريل الرجوب إلى بريطانيا. ونقلت «هآرتس» ارتياح مصادر فلسطينية للقاء بريطانيا، الذي اعتبرت انه دليل واضح على ان شارون اقتنع بأنه لا يمكن إحراز أي تقدم على الصعيد الدبلوماسي من دون الاتصال بعرفات. وتوضيحا لهذه الصورة أو الخطوة إذا ما صحت معلومات «هآرتس» من ان شارون يقدّم تنازلات على مستوى عقد لقاءات مع مندوبين للزعيم الفلسطيني الذي طالما سعى إلى جعل أبوعمار «غير ذي صلة»، كتب ألوف بن في «هآرتس» مقالا على خلفية تهديد شارون باتخاذ إجراءات من طرف واحد في حال لم يتوصل الفلسطينيون إلى اتفاق سلام على أساس «خريطة الطريق». ونقل عن مسئول في مكتب شارون ان الإسرائيليين لن ينتظروا قيام حكومة فلسطينية ثالثة، وفي حال انهارت «خريطة الطريق» فستباشر الدولة العبرية تنفيذ خطة من طرف واحد. وإذ لاحظ بن ان شارون لم يعطِ أية تفاصيل عن ماهية الإجراءات من طرف واحد التي ستتخذها الدولة العبرية، نقل عن عدة تقارير ان الإجراءات تلك ستشمل إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، يرافق ذلك إخلاء المستوطنات النائية. إلى جانب ذلك ستقوم الدولة العبرية بإحكام قبضتها على بعض المناطق في الضفة الغربية التي تعتبرها الحكومة الإسرائيلية أساسية لأمن «إسرائيل». إلى ذلك عرض بن لما ورد في بعض التقارير الاستخبارية التي وصلت إلى الحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك ان الفلسطينيين يلحظون بعض بوادر الانهيار على الدولة العبرية ولاسيما الانتقادات اللاذعة التي وجهها بعض الرؤساء السابقين إلى جهاز «شين بت»، إلى جانب مبادرات السلام الأخيرة التي أطلقها اليسار الإسرائيلي. وذكر بن، ان بعض التقارير العسكرية التي وصلت إلى حكومة شارون، أكدت ان الفلسطينيين يعتقدون بأن إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش متحمسة جدا لتحقيق إنجاز في الشرق الأوسط قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة، لذلك ستقوم هذه الإدارة بالضغط على «إسرائيل» لتحقيق تقدم على مستوى السلام. وأضاف بن ان التقارير أشارت إلى ان رئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع، قام بتأجيل لقائه مع شارون، من أجل إفساح المجال أمام الضغط الأميركي على «إسرائيل». وفي مقال تحت عنوان «شارون يرمي عظمة جديدة إلى الناخبين المعتدلين»، تساءل يوسي فيرتر في «هآرتس» عما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون إلى اتخاذ قرار الإقدام على خطوات من طرف واحد في هذا الوقت بالذات (في إشارة منه إلى تصريحات شارون الأخيرة بأنه سيتخذ إجراءات من جانب واحد، إذا اقتنع بأن لا جدوى من انتظار اتخاذ الإجراءات من الحكومة الفلسطينية). لافتا إلى انه صحيح ان استطلاعات الرأي تظهر امتعاض الكثيرين من سياساته، كما ان عددا من المبادرات بدأ يظهر ما يصعب حياة شارون السياسية، إلا أن الانتخابات مازالت بعيدة ولا أحد في حزبه يتحداه. وأضاف فيرتر، انه صحيح ان الأميركيين يمارسون ضغوطاتهم على رئيس الوزراء الإسرائيلي إلاّ ان الرئيس الأميركي جورج بوش يحضر لحملته الانتخابية وهو من دون أدنى شك بحاجة ماسة إلى أصوات الناخبين اليهود. كما ان فيرتر رأى انه على رغم ان شارون يفتقر إلى شريك يقف إلى جانبه في محنته فإنه لابد من التنبه إلى ان آخر ما قد يريده رئيس الوزراء هو أن يجد شريكا إلى جانبه. وعاد فيرتر ليتساءل عن السبب الذي دفع شارون إلى اتخاذ خطوة أحادية الطرف في حين انه كان دوما يعارضها؟ لافتا إلى ان شارون يسلك طريقا متعرجا، ومؤكدا انه يحاول أن يلتف على ما يجري الآن. مضيفا ان شارون لم يقم بشيء حتى الآن وهو يطلق كلاما من دون أفعال، بل ان كل ما يفعله هو التزام الصمت وهو لا يقول «لا» ولا «نعم». ولفت فيرتر إلى ان شارون ترك أمامه فسحة للمناورة. مؤكدا ان أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي حوالي 7 أشهر من التحايل. ذلك انه في «خطته» لاتخاذ خطوات من طرف واحد، ذكر أمام الصحافيين كلمة «صيف» و«فصل الصيف» مازال بعيدا ويمكن أن تحدث أمور كثيرة. وسخر قائلا: ان أمام الصحافيين فترة طويلة يمكنهم خلالها تقليب وتفحص كلام شارون قدر ما يريدون. ولاحظت افتتاحية «هآرتس» ان الشعور بضرورة الإسراع في كل ما يتعلق بالجهود التي يتعين على الحكومة المبادرة إليها بغية إيجاد مخرج من الضائقة الأمنية والسياسية التي تعانيها الدولة، يتزايد في أوساط كبيرة من الجمهور الإسرائيلي. ورأت ان قرار وزير الخارجية الأميركي كولن باول إجراء لقاء مع يوسي بيلين وياسر عبدربه، مليء بالمعاني السياسية. كما ان قرار مستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس التقليص من الضمانات فعلا، يشكل بدوره رسالة مباشرة وعلنية من جانب واشنطن من التجاهل المتواصل للحكومة الإسرائيلية لالتزاماتها بتفكيك المواقع الاستيطانية وتجميد البناء في المستوطنات. ولفتت إلى انه في مقابل كل ذلك، ينشر شارون، كعادته منذ انتخابه، سحابة دخان كبيرة جديدة. فخلال لقائه في روما الموظف الكبير في البيت الأبيض إليوت أبرامز، ومن خلال التسريبات الضبابية، يحاول شارون خلق أجواء من التوقع المتوتر في القدس، كما لو ان الحكومة على عتبة تحول في إدارة الصراع والسعي إلى التسوية. ولاحظت ان تكتيك شارون، الذي يلقى أصداء إيجابية لدى قسم من وسائل الإعلام، هو استمرار لإعلان - واعد ظاهريا لكنه فارغ من المضمون - الاستعداد لتقديم تنازلات مؤلمة. فرئيس الحكومة يستخدم هذا المصطلح الفارغ منذ سنوات، من دون أن يُنبئ بأي تحرك. وختمت بالقول انه على رغم الضغوط من الداخل، والضغوط من الخارج، وعلى رغم الفرص المتكررة للتقدم السياسي والأمني التي سنحت مع إقامة أحمد قريع في السلطة الفلسطينية، لا يوجد سبب للاعتقاد ان لدى شارون ذلك الشعور بالعجلة الموجود لدى كثيرين، ولا يوجد أساس أيضا للاعتقاد بأن وراء الدخان تتبلور فعلا خطوة جريئة.
من جهة أخرى، هناك مقال كتبه ناقم على الترحيب الأميركي باتفاق جنيف، فقد عبّر شارل كروثامر في «واشنطن بوست» عن استغرابه الشديد من تقدير وزير الخارجية الأميركي كولن باول لـ «مبادرة جنيف» التي أطلقها وزير العدل الإسرائيلي السابق يوسيه بيلين ووزير الإعلام الفلسطيني السابق ياسر عبدربه. ورأى كروثامر ان قيام مسئولين سابقين، لم يعد لديهم أية صلاحيات حكومية في دولة ديمقراطية مثل «إسرائيل»، بالتفاوض بشأن اتفاق رفضته الحكومة المنتخبة ديمقراطيا، هو فضيحة كبيرة. وأشار في هذا السياق (غاضبا) إلى انه في حال قام مواطن أميركي بالتفاوض بشأن معاهدة فردية فإن القانون الأميركي يحكم عليه بالسجن. أما إذا قام مواطن إسرائيلي بالأمر نفسه فإنه ينعم بمباركة وزير الخارجية الأميركي. وتابع: ان «اتفاق جنيف» نوع من الهذيان لأنه وُضع وكأن «اتفاق أوسلو» لم يحصل أبدا، موضحا ان بنود جنيف هي نفسها بنود أوسلو، وان الاتفاق الجديد لم يأت بأي جديد. وختم كروثامر هجومه على «اتفاق جنيف» بالقول: انه ليس اتفاق سلام بل اتفاقا على الانتحار يوقعه مواطن نيابة عن دولة كاملة رفضته سياسيا. مشددا على انه من العار على كولن باول أن يشجع هكذا مشروع.
وفي سياق توضيحي آخر لحقيقة ما يواجه شارون من اعتراضات، تناول أبراهام شالوم (رئيس جهاز شين بت بين العامين 1980 و1986) في «هآرتس» مسألة الجدار الفاصل في مقال تحت عنوان «الجدار السيئ». فاعتبر ان الجدار الذي تعمل الدولة العبرية على بنائه في اليهودية والسامرة سيتسبب بأضرار جسيمة. وشدد على ان المعابر التي ستخترق الجدار ستؤدي عند فتحها كل يوم إلى اندلاع حال من الشغب، كما انها ستشهد محاولات للقيام باعتداءات «إرهابية» ستؤدي إلى إلحاق الضرر بأعداد كبيرة من الناس. مؤكدا ان الجدار الفاصل والمعابر التي بنيت فيه ستؤدي إلى ظهور أنواع جديدة من الخدع العسكرية والتزوير والفساد. وتابع شالوم: ان الجدار سيؤدي إلى تفاقم «الإرهاب» لأن العرب سيشعرون بأنهم مهمشين ومهانين، فهم محاصرون وراء الجدار وحياتهم تزداد مرارة، أما أرضهم فمسلوبة منهم. وأضاف ان الفلسطينيين سيشاهدون المستوطنين يعبرون الجدار بسهولة كبيرة ما سيكسب شعورهم بالتهميش أبعادا جديدة. أما المستوطنون سيتملكهم شعور أصحاب الأرض بالسيطرة والتكبر وانهم يملكون الأفضلية على السكان العرب الأصليين. وخلص إلى ان هذه المشاعر ستعمّق الخلاف داخل المجتمع الإسرائيلي وهو أمر سيلحق أضرارا جسيمة يجب أن تؤخذ في الاعتبار. وإذ شدد على ان الجدار سيكون حافزا لارتكاب عمليات «إرهابية»، أشار إلى ان الفلسطينيين لايزالون يحتفظون ببعض القذائف البدائية التي يصل مداها إلى بضع مئات من الأمتار ما يعني انه بالإمكان إطلاقها باتجاه المناطق المحاذية للجدار وإلحاق خسائر بشرية. وتابع شالوم، أنه ما من حاجة إلى الحديث عن الضرر السياسي الذي يلحقه الجدار بـ «إسرائيل»، ولا عن الثمن الباهظ الذي تتكبده الدولة العبرية على هذا المشروع المؤذي والأحمق، مؤكدا انه من السهل أن يعلن الإسرائيليون مرارا وتكرارا أن الجدار الفاصل هو جدار أمني وليس جدارا سياسيا، غير ان ما من أحد سيصدقهم.
وسخر ياعل بازميلماد في «معاريف» قائلا انه هكذا تبدو في هذه الأيام مناعة الإسرائيليين القومية: 50 في المئة يعتقدون ان «إسرائيل» ليست مكانا جيدا للعيش فيه. 67 في المئة يقولون انهم «باقون فقط» وانهم لا يمارسون حياة ذات مغزى. 26 في المئة معنيون بالحصول على جواز سفر أجنبي، و37 في المئة لا يثقون بأن «إسرائيل» ستستمر في الوجود. معتبرا ان هذه المعطيات التي أعلنت في الاجتماع الاقتصادي - الاجتماعي في شدروت هي ضربة قاضية. وشدد بازميلماد على ان هذه المعطيات الصعبة تثبت ان «إسرائيل» تحولت بالنسبة إلى مواطنيها إلى دولة لا خيار من الأفضل أن تهرب منه. وسخر قائلا: ان شارون يستطيع أن يخطب من اليوم حتى الغد عن قوة ومناعة الجمهور، فهو معزول لا يعرف الوضع على حقيقته. ودعا الكاتب العبري أعضاء الكنيست والوزراء المحترمين إلى النظر في هذه المعطيات، مؤكدا ان نهاية راحة الإسرائيليين هي في بلادتهم وانفصالهم وعجزهم عن العمل. ودعاهم إلى التحدث إلى رئيس الوزراء الفلسطيني أبوالعلاء من دون استعلاء، ومن دون شروط مسبقة. كما حثهم على إزالة المواقع الاستيطانية التي تشكل عبئا ماليا كبيرا.
أخيرا، يؤكد وليد شقير في «الحياة»، أنه بناء على هذه الأجواء التي توحي بأن أمور المفاوضات قد تعود بزخم فإنها «عود على بدء» إذ قد يُخدع البعض بالتلويح الأميركي باستثناء نحو 270 مليون دولار أميركي من صيغة ضمانات القروض لـ «إسرائيل» بقيمة 8 بلايين دولار، لكن الأمر لا يعدو كونه لعبة إعلامية أيضا وأقصى العقوبة قد تكون أن تستدين «إسرائيل» هذا المبلغ من السوق الأميركية بفائدة تزيد نقطة على المتبقي من الـ 8 بلايين دولار يستطيع اللوبي الإسرائيلي أن يعمل على خفضها. ولاحظ شقير ان واشنطن هيأت الذريعة لـ «إسرائيل» إذا أرادت تنفيذ موجة عنف جديدة إذ طالبت السلطة الفلسطينية مرة أخرى بإجراءات تعجيزية منها جمع السلاح من سائر المنظمات الفلسطينية... انها عود على بدء
العدد 454 - الأربعاء 03 ديسمبر 2003م الموافق 08 شوال 1424هـ