ما هي إلا أسابيع قليلة وتحتفل البشرية على امتداد المعمورة بحدثين عالميين كبيرين، الأول هو اليوم العالمي للمرأة (8 مارس/ آذار)، والثاني عيد الأم (21 مارس)، وهي التي كرّمها الله عز وجل في كتابه، وكرّمها رسوله (ص) بقوله: «الجنةُ تحت أقدام الأمهات».
ولا غرو في ذلك، إذا ما اعتبر عددٌ من المفكرين والفلاسفة التنويريين، ومنهم فريدريك أنجلز، أن مقياس تحرّر أي مجتمع إنّما يتحدّد بمدى تحرّر المرأة فيه. وبالطبع لا يُفهم من كلامهم هنا التحرر بمعناه الابتذالي الإباحي لجسد المرأة، أو بما ترتديه مما يُسمى ملابس عصرية التي هي دون الحد الأدنى من الحشمة المتعارف عليها في القيم العالمية المشتركة، كما هو الحال في الدول الرأسمالية الغربية، بقدر ما يعني مدى نيلها الحد الأدنى على الأقل من حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والأسرية.
ولم يُعرف عن أي مجتمع في الحضارة العالمية المعاصرة غابت عنه هذه الحقوق النسوية، اتصف بتحرره الكامل في جميع المجالات المذكورة. كما لا يمكن أن يكون مجتمع متحرراً بالكامل وفي الوقت ذاته تكبله القوانين الجائرة والعادات والأعراف المتخلفة، وتتفشى فيه الأمية والجهل وتدني الوعي السياسي على نطاق واسع، ناهيك عن العصبيات القبلية والدينية والطائفية. وهذه كلها أفضل أوضاع تستفيد منها الأنظمة المستبدة، وتوفر لها أدوات للعب على أوتارها لتوظيفها في تشتيت الشعوب وتفكيك نسيجها الوطني وإشغالها عن مصالحها الحقيقية تبعاً لسياسة «فرّق تسد» العتيدة.
وعلى الرغم من مرور نحو ستة عقود ونيف على تحقيق معظم الأقطار العربية استقلالها من ربقة الاستعمار وقيام الدولة الوطنية، إلا أن وضع المرأة مازال يرزح مكانه، وقد تكشّف أن ما نالته المرأة تحت حكم دولة الاستقلال العربية لم يكن إلا إنجازات شكلية جرت في ظل بنية اجتماعية متخلفة متقادمة لم يطاولها التغيير الحقيقي، في ظل تغييب مديد للديمقراطية عن إدارة الحكم. بل ظلت أوضاع المرأة تنتقل من حال سيء إلى حال أسوأ، ولا سيما بعد الانتكاسات المتوالية التي مُنيت بها حركات التحرر الوطنية وقوى التغيير الديمقراطية في ظل تغوّل السياسات الأمنية للدولة الشمولية، وتعاقب الضربات وحملات القمع الوحشية بحقها، والتي رافقها أيضاً الإجهاز على كل المكتسبات اليسيرة المتواضعة التي حققتها المرأة العربية في سياق نضالها المشترك مع تلك القوى، حتى أضحى تمثيلها اليوم في المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية والصحافية، لا يعكس بالمرة ما لعبته من أدوار تاريخية، سواءً من أجل تحرّر أوطانها، أو من أجل الإصلاح الشامل وفرض التحولات الديمقراطية والسياسية الجذرية، بما في ذلك مساواتها مع الرجل في نيل حقوقها المشروعة كافة، أو من أجل المساواة الكاملة بين الفئات المهمّشة، لأسباب قبلية أو دينية أو عنصرية أو مذهبية، والفئات المحظية.
ومن نافلة القول أن معاناة المرأة وأوضاعها التمييزية إنما هي أشد وأسوأ إذا ما كانت منتميةً للفئات المنبوذة والمضطهَدة والمهمّشة. ولعل الفترة القصيرة التي حكم خلالها الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم قائد ثورة 14 تموز/يوليو (1958-1963)، من الفترات السياسية القصيرة النادرة التي نالت فيها المرأة في عالمنا العربي بعضاً من حقوقها، ففي خلال هذه الفترة تمكّنت أول امرأةٍ عربيةٍ في تاريخ العرب الحديث من تقلد منصب وزير، وذلك عندما أصدر قاسم في يوليو 1959 مرسوماً جمهورياً بتعيين الشخصية النسوية اليسارية المعروفة الدكتورة نزيهة جودت الدليمي وزيرةً للبلديات، والتي استغلت هذا المنصب ليس للوجاهة وتحقيق المنافع الشخصية، بل سخرته بأقصى ما تستطيع في خدمة شعبها وحقوق المرأة بوجه خاص. فقد تمكنت، بشهادة المراقبين المحايدين، من تنشيط وزارة البلديات وإعادة تنظيم أجهزتها لتتمكن من خدمة المجتمعات المحلية، وخصوصاً القروية، في مختلف المجالات الصحية والبيئية والتعليمية، بدءاً من العمل على تطوير بنياتها التحتية، وكذلك إيفاد المهندسين إلى الدول المتقدمة لتأهيلهم لتخطيط الخدمات والمشاريع العمرانية المختلفة.
كما كان لها بصمات واضحة في إنجاز واحد من أهم المكتسبات الإسكانية لثورة يوليو العراقية والمتمثل في مشروع إنشاء مدينة الثورة والتي تُعرف اليوم بمدينة الشهيد الصدر.
إلا أنه وبسبب الصراعات السياسية المتعددة التي شهدتها تلك الحقبة الخصبة من تاريخ العراق، بما في ذلك علاقة حزبها الشيوعي مع سلطة قاسم المتذبذبة بين التحالف تارةً والصراع تارات عديدة، وحيث غلب عليها هذا الطابع الأخير أكثر من الأول، فإن فترة توليها تلك الوزارة لم يدم إلا أقل من عام واحد، فقد تم إعفاؤها في مايو/ آيار1960 من منصبها كوزيرة للبلديات وعُينت في منصب هامشي (وزيرة دولة بلا حقيبة)، تمهيداً لإخراجها كلياً من التشكيلة الحكومية في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه.
نزيهة الدليمي التي رحلت عن عالمنا قبل سنوات قليلة، وتحديداً في العام 2007 عن عمر يناهز الـ 84 عاماً، كانت لها بصماتها البيّنة في إصدار ما وصفته الانسيكلوبيديا الالكترونية بقانون الأحوال الشخصية الأكثر تطوراً في الشرق الأوسط، والذي كان مثار جدل مجتمعي في الأوساط السياسية والدينية حينذاك. وكانت من أوائل الطبيبات العربيات والعراقيات اللواتي نلن في وقت مبكر شهادة كلية الطب (تخرجت العام 1947)، وهي التي أسست رابطة المرأة العراقية التي لعبت دوراً في النضالين الوطني والنسوي من أجل توعية المرأة بحقوقها السياسية والاجتماعية وجذبها نحو الانخراط مع نضال الرجل في معمعة النضالات الوطنية.
وأصبحت الرابطة النسائية التي أسستها نزيهة في أوائل خمسينيات القرن الماضي، عضواً دائماً في الاتحاد النسائي العالمي. وتولّت الدليمي منصب نائب الرئيس فيه، فضلاً عن عضويتها في مجلس السلم العالمي.
فرّت الدليمي بعد حملة القمع التي شنها نظام البعث الدكتاتوري على حزبها في أواخر السبعينيات إلى أوروبا، حيث اختارت ألمانيا مقراً لإقامتها التي امتدت حتى وفاتها. ويُقال بأنها أوصت بدفنها في مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد. وأعيد الاعتبار لدورها الريادي التاريخي في الحركتين السياسية والنسوية في ظل النظام الجديد، حيث قرّر مجلس الوزراء بعد وفاتها تكريمها بإقامة تمثال لها، وهو أول تمثال يُنحت لشخصية نسوية في تاريخ العراق الحديث، وكان النظام الجديد، ومن منطلق الانفتاح أيضاً على القوى السياسية التي لعبت دوراً وقدّمت تضحيات كبيرة من أجل إنهاء عقود الدكتاتورية السوداء جنباً إلى جنب مع القوى الإسلامية، أن قرّر في مارس 2014، أن يطلق على أحد شوارع مدينة النجف الأشرف اسم زعيم حزبها سلام عادل، حيث مسقط رأسه، والذي سقط شهيداً تحت التعذيب الوحشي في الانقلاب الدموي للبعث في 8 فبراير/ شباط 1963، على حكم قائد ثورة تموز الذي أعدمه الإنقلابيون هو الآخر وهو صائمٌ في دار الإذاعة في نهار يوم 14 رمضان من العام نفسه.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4532 - الإثنين 02 فبراير 2015م الموافق 12 ربيع الثاني 1436هـ
أفضل النهر
مقال رائع اخ رضي و يحتوي على معلومات غزيرة
الوعي والمرأة
الوعي سلاح المرأة الفعال ضد التخلف والذي بدونه لا يمكن لها مواجهة التزمت والتعصب والافكار والتقاليد الرجعية البالية ، نزيهة الدليمي كانت تمتلك ذلك الوعي والإرادة والفكر الإنساني ... كنموذج فريد للمرأة العربية الرائدة في زمن يفتقد لتلك الجوانب الإنسانية الحضارية الراقية ...