في وقت شنت فيه الفصائل الفلسطينية بمختلف أطيافها حملة سياسية عنيفة على مبادرة جنيف باعتبارها خيانة لحق اللاجئين بالعودة وتشكّل تنازلا مجانيا عن القدس. ووسط حفاوة غربية تقابلها معارضة من حكومة أرييل شارون وفيما يحتدم الخلاف بشأن وثيقة نظرية لا تلزم أحدا، أقر بذلك عرّابا الوثيقة وزير العدل الإسرائيلي السابق يوسي بيلين ووزير الإعلام الفلسطيني السابق ياسر عبدربه، اللذان نشرا مقالا في «نيويورك تايمز» (يوم توقيع الاتفاق في سويسرا)، وضعا فيه «اتفاق جنيف» بين أيادي المسئولين عند الطرفين، فهو ليس سوى اتفاق افتراضي يمكن لصانعي القرارات في الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية وواشنطن وغيرها أن يستخدموا وثيقة الاتفاق أو أن يجروا تعديلات عليها أو حتى أن يتجاهلوها. ونشرت «هآرتس» نتائج استطلاع للرأي أجرته بشأن رأي الشعب الإسرائيلي بمبادرة جنيف. وأبرزت الصحيفة العبرية في خبر افتتاحي ان المفاوضين الفلسطينيين الذين سيشاركون في حفل توقيع «اتفاق جنيف» رفضوا في السابق حضور الحفل من دون الحصول على رسالة خطية من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، يؤكد فيها انه واللجنة المركزية لحركة «فتح» يدعمان المبادرة. غير انه عندما رفض عرفات صوغ الرسالة قرر هؤلاء المفاوضون الاكتفاء بتصريح شفهي من الرئيس الفلسطيني يسمح لهم بحضور حفل التوقيع بصفة غير رسمية. وأشارت الصحيفة العبرية إلى ان عرفات شدد على انه لم يوافق لا هو ولا منظمة التحرير الفلسطينية رسميا على مسودّة المبادرة. ونقلت «هآرتس»، في هذا السياق، توضيح مصدر مقرب من عرفات، ان رئيس السلطة الفلسطينية يرفض بالمبدأ إعطاء موافقة خطية على مبادرة جنيف، لأنه ببساطة لم يعطِ موافقة مماثلة في السابق إلى الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، لذلك فما من سبب لمنح موافقته الخطية للوزير الإسرائيلي السابق يوسي بيلين. وتناولت «هآرتس» في افتتاحيتها أيضا «مبادرة جنيف» للسلام، واعتبرت ان ما يميز هذه المبادرة هو ان مقاربتها للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي تختلف عن مقاربة القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية. ففي حين تنظر هاتان القيادتان إلى هذا النزاع من منطلق التعامل مع الأزمات، تعتمد مبادرة جنيف مقاربة تستند إلى رغبة جامحة في حل النزاع. وأوضحت الصحيفة العبرية ان الطرق التي اعتمدها طرفا النزاع للتعامل مع العنف الذي أخذ بالتأجج منذ سبتمبر/ أيلول 2000 تأتت عن دوافع نفسية وعقائدية. فالفلسطينيون دعموا العنف من أجل الضغط على «إسرائيل» لتستجيب إلى مطالبهم. أما الإسرائيليون فقد قابلوهم بالمثل تحت ذريعة الدفاع عن أنفسهم. وتابعت «هآرتس» أن الأيام القليلة الماضية شهدت نموذجا من سلوك الإسرائيليين والفلسطينيين في أسلوب التعامل مع النزاع فيما بينهما. فرئيس الوزراء الفلسطيني أحمد قريع وضع شروطا للقاء نظيره الإسرائيلي. أما شارون فلمّح إلى احتمال تليين موقفه إلاّ انه ما لبث أن تراجع. وترافق ذلك مع حوادث دموية ألحقت خسائر بشرية. ورأت الصحيفة العبرية ان «مبادرة جنيف» برزت في الوقت المناسب لأنها تهدف إلى حث الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي على «الاستقالة» من الوضع الراهن الذي يعيشان في ظله ولأنها تشكل تحديا لزعماء الشعبين لكي يعتمدوا طرقا جديدة في التفكير باقتراحها حلولا جذرية للنزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. من هنا لاحظت «هآرتس»، ان وثيقة عبدربه - بيلين حققت هدفها الأساسي ألا وهو حث الأحزاب السياسية في «إسرائيل» على اقتراح خططها الخاصة لحل النزاع إلى جانب دفع الحركات الفلسطينية المختلفة إلى تحديد مواقفها من الاتفاقات المعروضة للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وأظهرت النتائج ان عدد رافضي المبادرة يوازي تقريبا عدد معارضيها. ففي حين أعرب 31 في المئة من الإسرائيليين عن دعم المبادرة، عبر 38 في المئة عن رفضهم لها، بينما صرح 20 في المئة بأنهم لم يكوّنوا رأيا بشأن المبادرة بعد. وأظهر الاستطلاع ان 13 في المئة من ناخبي تكتل «ليكود» يدعمون مبادرة جنيف التي يعارضها جميع زعماء التكتل وعلى رأسهم رئيس الوزراء وزعيم التكتل آرييل شارون. وأجاب 15 في المئة من الذين شملهم الاستطلاع ان الشخصيات الإسرائيلية التي تقف وراء «مبادرة جنيف» ساذجة واعتبرها 23 في المئة رجال دولة. بينما رأى 26 في المئة بأنها مخربة في حين وصفها 19 في المئة بأنها وطنية. إلى ذلك أظهر الاستطلاع ان 25 في المئة من الإسرائيليين يعتقدون أن أي اتفاق سلام قد يحصل مع الفلسطينيين سيكون مشابها لتفاهم جنيف، بينما 22 في المئة رأوا العكس. وأظهر الاستطلاع أيضا ان 32 في المئة من الإسرائيليين يعتبرون ان ما من تسوية نهائية قد تحصل بينهم وبين الفلسطينيين. من جهة أخرى أظهر الاستطلاع ان 60 في المئة من الإسرائيليين لم يسمعوا بمبادرة «صوت الشعب» أو ما يعرف بمبادرة نسيبة - أيالون. لكن عرابي الوثيقة بيلين وعبدربه نشرا مقالا في «نيويورك تايمز» تحت عنوان «اتفاق سيذكره التاريخ»، لفتا فيه إلى ان «مبادرة جنيف» تعود إلى يناير/ كانون الثاني 2001 أي إلى حين توقف المحادثات بين «إسرائيل» والمسئولين الفلسطينيين في طابا. وأشارا إلى انه بصفتهما مشاركين في تلك المحادثات، شعرا بأن ثمة فرصة للتوصل إلى اتفاق على رغم ان زملاءهما من الفلسطينيين والإسرائيليين شعروا بأن الصدع كبير جدا بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى درجة لا يمكن رأبه. ومع وصول شارون إلى رئاسة الوزراء في «إسرائيل»، وجد المسئولان السابقان أن عليهما إيجاد أرضية مشتركة والتأكيد للفلسطينيين والإسرائيليين أنه على رغم الإحباط وخيبة الأمل والعنف يمكن للجانبين استئناف المحادثات. وتابع الرجلان أن مسيرتهما كانت مليئة بالصعاب والعراقيل، ففي تلك الفترة كان ممنوع على الإسرائيليين الدخول إلى الأراضي الفلسطينية كما كان من غير المسموح للفلسطينيين ولوج الأراضي الفلسطينية وحتى السفر إلى الخارج. لذلك كان المشاركون في مفاوضات السلام غير الرسمية يلتقون على الحواجز إذ يجرون المفاوضات داخل السيارة إلى أن تحسنت الأمور ووفرت الدولة السويسرية الفرصة لهم للقاء في الخارج. ولفت المسئولان السابقان إلى ان مبادرة جنيف تقوم على فكرة رئيسية مفادها انه في مقابل السلام مع «إسرائيل»، يحصل الفلسطينيون على دولة منزوعة السلاح. وأكد بيلين وعبدربه، انه على رغم معارضة المتشددين الإسرائيليين والأصوليين من حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، للاتفاق فقد شعرا بالارتياح لأن الاتفاق بدأ يضفي جوا إيجابيا على المناخ التفاوضي على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وفي هذا السياق لفت الرجلان إلى ان نتائج استطلاع للرأي أجرته جامعة رايس الأميركية ومجموعة النزاع الدولية في واشنطن، أظهرت ان أكثر من نصف الفلسطينيين والإسرائيليين يدعمون المبادئ الأساسية لوثيقة الاتفاق. وأكد المسئولان السابقان أنه من المهم جدا أن تحصد مبادرة جنيف دعما دوليا، مرحبين بالدعم الذي قدمه إلى الاتفاق رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، وأمين عام الأمم المتحدة كوفي عنان، ووزير الخارجية الروسي إيغور إيفانوف. إلاّ انهما على رغم ترحيبهما بتقدير وزير الخارجية الأميركي كولن باول للمبادرة، شددا على ان عملية السلام تحتاج إلى المزيد من الأصوات الأميركية من أجل ضمان استمراريتها. وفي الختام لفت بيلين وعبدربه إلى ان «اتفاق جنيف» ليس سوى اتفاق افتراضي يمكن لصانعي القرارات في الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية وواشنطن وغيرها أن يستخدموا وثيقة الاتفاق أو أن يجروا تعديلات عليها أو حتى أن يتجاهلوها. وشددا أخيرا على انهما بصفتهما غير الرسمية بذلا ما في وسعهما في ظل وضع أصبح غير محتمل البتة، ويعود القرار إلى الزعماء
العدد 453 - الثلثاء 02 ديسمبر 2003م الموافق 07 شوال 1424هـ