العدد 4527 - الأربعاء 28 يناير 2015م الموافق 07 ربيع الثاني 1436هـ

التصحُّر يزحف على المخيَّلة!

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

أن تقف على نصٍّ مدهشٍ مُغْرٍ يدفعك دفعاً إلى أن تتوحَّد مع لغته ورؤيته وترميزاته، وقدرته على الابتكار والخلق. الخلق في الرؤية والرؤيا، فذلك من العناء الذي يُصادفك كلّما ولّيت وجهَك شطرَ معرض أو مكتبة، هي آخر اهتمام المارَّة والعالم في المكان المُؤدِّي إليها، وخصوصاً إذا كانت محشورة في حيٍّ تجاري، فيه من الأنشطة ما يجعلها بمثابة فضيحة وندوب بالنسبة إلى تلك القطاعات: المقاولات، شركات التأمين، وسطاء الاستثمار، أندية الجِم والكاراتيه، وصالونات التجميل، وقراءة الطالع، ولكن في تمويهات تأتي ممارسة في شكل عيادات نفسية، يخرج منها المريض وهو أقرب إلى الاقتناع بوضع حد لحياته!

التصحُّر يزحف على كل شيء؛ ليست الأرض التي تمَّ إعمارها فحسب. يزحف على المخيَّلة في منطقتنا اليوم، أكثر من زحفه على أي شيء آخر، أو منطقة خارج الأسْر العمْلاق الذي نعرف، ووعتْ عليه مداركنا، التي هي الأخرى في الطريق إلى تصحُّرها؛ إن لم تتصحَّرْ أساساً!

تصحُّر المخيَّلة لا يتضح في صورته التي لا تحتمل التأويل، إلا بالتوجيه الذي يسيّرها، والإملاءات التي تقطع قدرتها على التحليق بعيداً عن كل ذلك.

نعم ثمة ما/ من يُملي على المخيّلة الحدودَ التي يجب أن ترتادها وتُشبعها اكتشافاً، ولو كانت صِفراً في القيمة واستقاء الدرس وتتبّع الأثر للبناء عليه.

مخيَّلة مثل تلك، هي خلف سياج وحُجُب، وإن توهَّمت قدرتها على السفر إلى المجهول، وترك بصمتها على ما لم تبلغه وتسبقه بصمة من قبل. على الأقل ضمن جغرافية تظل فيها المخيَّلة تحت المراقبة، في وسواس وطموح اقترابها من التحايل على الملهاة التي تعيد تدوير نفسها، وينتج عن ذلك التدوير، ركون إنسان ذلك الجزء من العالم إلى آخر صيحات انشداده للتخلف والتأخر ومراقبة العالم، وهو يصنع مصيره، فيما مصيره معلَّق على التفات دُوَلِه إلى الأدنى من حقه في الحياة ومتطلباتها!

تذهب إلى الشعر في ما تضخُّه المطابع العربية، التي لا تعنيها من قريب أو بعيد جودته من رداءته، فتلعن أب وأم وجدَّ وأسلاف اليوم الذي تورَّطت فيه بكتابة الشعر!

تذهب إلى الكثير من حكايات «البراحات» وصالونات الحلاقة، وتجارب بيع قطع الغيار المستعملة، والوساطة في اللحم البشري، فلا تقف على إضاءة تلزمك باحترام أن تواصل قراءة الكثير من ذلك الكلام المستهلك، والمخيَّلة في احتضارها تحت مسمّى قصة!

تذهب إلى الرواية، في كثير من المنجز اليوم، فلا تقف إلا على ما هو دون الفراغ. استدعاء لما يُراد تعميمه من الأمراض والعُقد والسفالة أيضاً. رواية الفشل والخيبة وفي الدرجات السيئة من الصياغة والمبنى؛ عدا المعنى!

تذهب إلى بعض أعمدة الرأي، فلا تجد إلا صراخاً وما يشبه الهلوسة والتلمُّظ والتمنِّي، وفي كثير من الأحيان: الشتائم! ولن تخطئ مخيَّلتك إذا رأيت فيها التكالب على نتيجة مطلوبة، صورة شيك نصه: «إدفعوا لحامله»! اختزال المخيلة في الشتائم ولغة الشوارع، من أجل «مبلغ وقدْره»!

تذهب إلى بعض الأعمال الفنية (اللوحة) فتشمُّ فيها طموح الدخول في مزاد عالمي، وإن لم تحْوِ قيمة، بارتجال يدفعه الجوع والفاقة أحياناً، والأطماع وتراكم التفاهة أحياناً أخرى، ولتذهب المخيَّلة التي أنجزتها إلى الجحيم!

مع كل ذلك، ومع كل تلك النماذج من الصور والهيئات الحاضرة والمقيمة التي تمارس انحرافها عن الدور الذي من المفترض أن تقوم به، وتسهم من خلاله بشيء فيه من قيمة الخلاص الذي يحتاجه هذا العالم، وعالمنا خصوصاً، لا يمكن للمخيَّلة أن تقوم بذلك الدور وتسهم فيه، وتوجد مقاربة له، ولا يمكن لمخيَّلة أن تكون حادَّة في اقتناص ذهابها بعيداً في التشخيص، ووضع العالم أمام ورطة حقيقية بقراءة تهديد المستقبل، وعدم التسليم ببيانات مكاتب العلاقات العامة التي تعد المواطن بشمس في يد وقمر في يد، وهو عاجز عن اللحاق بقرص خبزه اليومي، ومورد تلك المخيلة ومصدر إلهامها الاستسلام إلى الرعب والخوف والإملاءات، وكأنها وصْفة لموتها، ومن ثم ترك العالم - العالم الذي توجد فيه - مرهوناً لمزيد من العُقَد والتخلُّف وانتظار الفرج، والنوم على الخيبات وما أكثرها، حين تصاب المخيَّلة في مقتل بفعل كل تلك الخيبات!

لا تتمادى المخيَّلة إلا في أوساط حتى السجن فيها لا يخلو من أفق؛ فيما المخيلة التي نعني وضمن واقعنا، تظل تتحرك في بلاد بمساحات مئات آلاف الكيلومترات، ولكنها تظل حبيسة سجن عملاق!

ولا مبالغة في القول، إنه عصر تصحُّر المخيَّلة بامتياز!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 4527 - الأربعاء 28 يناير 2015م الموافق 07 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 12:06 ص

      المختار الثقفي

      تذهب إلى بعض أعمدة الرأي، فلا تجد إلا صراخاً وما يشبه الهلوسة والتلمُّظ والتمنِّي، وفي كثير من الأحيان: الشتائم! ولن تخطئ مخيَّلتك إذا رأيت فيها التكالب على نتيجة مطلوبة، صورة شيك نصه: «إدفعوا لحامله»! اختزال المخيلة في الشتائم ولغة الشوارع، من أجل «مبلغ وقدْره»! ...
      سلمت يداك ايها الجمري

اقرأ ايضاً