فقدت الأمتان العربية والإسلامية بل فقد العالم بأسره، رجلاً كان فخراً للرجال بمعنى الرجولة في القول والعمل، وقائداً كان مقداماً وبطلاً من أبطال الشجاعة الأدبية، فضلاً عن الشجاعة المادية، والأولى في رأيي المتواضع أهم وأبقى. وقد اهتم الراحل الكريم بفلسفة الحوار العقلاني بين الطوائف والعقائد والثقافات، ومن هنا دعا إلى عقد المؤتمر الأول في الرياض، والثاني في نيويورك، في مبادرة للمملكة في إطار الأمم المتحدة. ثم أقيم بعد ذلك مركز الحوار في فيينا.
وقد كان المغفور له بإذن الله، داعيةً للحوار عن إيمان صادق وعقيدة راسخة، باعتبار الحوار جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية السمحة، كما جاء في الدين الإسلامي الحنيف الذي قال: «ولا تستوِي الحسنَةُ ولا السَيّئةُ ادْفَعْ بالتي هي أَحسنُ فإِذا الَذي بينك وبينهُ عداوةٌ كأنّهُ وليٌّ حميمٌ» (فصلت، 34).
وآمن العاهل الراحل بأن الدين من عند الله هو دين واحد، لقوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبُر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب» (الشورى، 13). فهذا كله شرع الله تعالى، ديناً واحداً وملةً متحدةً، لم يختلف على ألسنة الأنبياء، وإن اختلفت فإن الوحدة هي الأساس، والإختلاف في الشعائر لا ينبغي أن يؤثر فيها.
وهنا نجد الدعوة للوحدة واضحة وضوح الشمس، والتأكيد بأن اختلاف الشعائر لا يجب أن يترتب عليه اختلاف أو تصارع بين أبناء الدين الواحد الذي هو دين الله سبحانه وتعالى، فما بالك بوحدة الشعائر واختلاف الطوائف، فهذا أبسط ولا ينبغي أن يؤثّر في وحدة الشعوب وتكاتفها.
كان الراحل الكريم عروبياً شهماً وقوياً شامخاً، دافع عن عروبة البحرين وأمنها، كما انحاز إلى شعب مصر في ثورته في 30 يونيو، مؤيداً لها وناصراً لشعبها وداعماً لجيشها ومسانداً لقيادتها المدنية والعسكرية، ورافضاً الانصياع لرغبة القوى العظمى وانتقاداتها بالنسبة لموقفه من البحرين أو من مصر. ورغم اختلاف الحالتين فإنه كان يشعر بنبض الشعب في كلا البلدين، وحاجته للحماية في لحظة فارقة من تاريخ كل منهما، ولهذا لم يتردد للحظة واحدة.
إنه من الصعب التحدث عن مناقب الفقيد وهي كثيرة، ولست مؤهلاً للتعرف عنها تفصيلاً، ولكنني أشير إلى تجربة شخصية فقط هي للقاءاتي مع جلالته، وهي ثلاث مرات في مناسبات صينية وعربية وإسلامية ويابانية. المرة الأولي عندما زار الصين وكان ولياً للعهد، وكنت آنذاك سفيراً لمصر في الصين، واجتمع مع السفراء العرب وحملنا رسالتين مهمتين: الأولي هي ضرورة العمل بجد ونشاط من أجل مصلحة بلد كل سفير منا، وفي الوقت نفسه من أجل مصلحة العروبة والإسلام؛ والثانية أهمية العلاقات العربية الصينية وضرورة العمل علي تطويرها. وهذا كله يعكس رؤية جلالته الثاقبة والبعيدة النظر في الاهتمام بل والمبادرة في التوجه شرقاً.
المرة الثانية في الرياض عندما كان هناك اجتماع للحوار بين الحضارتين الصينية والعربية، وشاركت فيه بصفتي متخصصاً في الحضارة الصينية، ومن الملفت للنظر آنذاك أن ثلاث جهات رشّحتني للمشاركة هي مصر والجامعة العربية والبحرين، وكنت آنذاك مستشاراً للدراسات الاستراتيجية بمركز البحرين للدراسات والبحوث، وكان حلماً أن نلتقي كخبراء مع عاهل أكبر دولة خليجية ومن الدول العشرين في المنظومة الاقتصادية العالمية، ولكن الحلم سرعان ما تحوّل إلى حقيقة عندما حضر للندوة مبعوث من الديوان الملكي يبلغنا بأن عاهل البلاد سوف يلتقي بالوفود وابتهجنا، ولكن فريقاً منا شعر بعدم الارتياح وهن المشاركات من النساء، ولما بلغ جلالته ذلك أرسل مبعوثاً ينقل لهم البهجة بلقاء جلالته. وفعلاً حضرنا جميعاً اللقاء، وحرص جلالته أن يظل واقفاً وأن يصافحنا فرداً فرداً بلا استثناء، وتحدث إلينا عن الارتباط الحضاري والتاريخي بين الحضارتين العربية والاسلامية والتراث المشترك بينهما.
أما اللقاء الثالث فكان عندما شاركت أيضاً في الدورة السادسة للحوار الياباني الإسلامي، وعقدت الدورة في الرياض والتقى بنا خادم الحرمين الشريفين وأفضى لنا بسر لم يكن أبلغ به أحداًَ علانية، وهو أن جلالته استشار علماء المملكة العربية السعودية في فكرة راودته، وهي الدعوة لحوار عالمي بين أصحاب الحضارات والثقافات والأديان والعقائد، فأبدوا تأييدهم للفكرة وشجّعوه على المبادرة بطرحها. وفعلاً طرحها جلالته، وفي غضون ثلاثة أشهر من لقائنا وضعت الفكرة موضع التنفيذ، وعقد مؤتمر للطوائف الإسلامية في الرياض، ثم مؤتمر لكافة أصحاب العقائد والأديان في نيويورك في إطار الأمم المتحدة، وصدر قرار بناء على مبادرة جلالته بإنشاء وتمويل مركز للحوار في فيينا.
وينبغي أن نشير إلى أن الحوار الياباني الإسلامي كان بمبادرة كريمة من وزير خارجية البحرين آنذاك سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة مع نظيره الياباني الذي كان يزور البحرين ضمن جولة خليجية، وعقدت الدورة الأولى في البحرين علي مستوى المثقفين وبعض المسئولين. وقد شاركت في تلك الدورة وكنت مستشاراً لرئيس جامعة البحرين ماجد بن علي النعيمي آنذاك، بينما شاركت في الدورات التالية للحوار بصفتي مستشاراً للدراسات الاستراتيجية وحوار الحضارات في مركز البحرين للدراسات والبحوث، عندما كان يتولى رئاسته محمد بن جاسم الغتم.
وختاماً نقول إن بيت الشعر التالي يعبّر تمام التعبير عن الدور البارز والدائم لجلالة الملك عبد الله بن عبد العزير رحمه الله:
لقد مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم بين الناس أموات
رحمك الله رحمة واسعة ياعبد الله بن عبد العزيز، أيها الراحل الكريم، وتغمّدك الله في كرمه وإحسانه وفضله، وأعان الله الملك سلمان بن عبد العزيز، وهو من قرّاء وحفظة القرآن الكريم بصوت جميل وممتع يشع روحانية، وحمى الله المملكة العربية السعودية وكافة بلاد العرب والمسلمين.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4524 - الأحد 25 يناير 2015م الموافق 04 ربيع الثاني 1436هـ
رحمةُ الله عليه
ملك الانسانيه