استوقفني خلال مطالعاتي الصحافية اليومية في الشهر الماضي تقرير صحافي قيّم عن مدينة أوروبية لما ينطوي عليه من مغزى وعِبر حيال المآلات التي أضحت عليها مدننا العربية بيئياً في أوقات السلم، دع عنك مآلاتها في أزمنة الحروب فهي غنية عن التعريف إن بقي لها حجر على حجر لم يُمس.
التقرير يشير إلى أن إيريك بيول المرشح للانتخابات البلدية في مدينة غرونوبل الصناعية الفرنسية خاض الانتخابات بمشروع وعد الناخبين بموجبه إلغاء اللوحات الإعلانية التجارية التي تغزو بوحشية مقززة شوارع المدينة، بما في ذلك الحيز العام الذي يُفترض بأنه ملك للمواطنين. ويشرح بيول فكرته قائلاً: «البلدية تسعى لتحرير المساحة العامة من السياسات الإعلانية التي تسبب ضغوطاً نفسية ومادية على المواطنين، وهي محاولة لسلب ما في جيوبهم من خلال وضعهم تحت عامل الدهشة نفسياً».
وطبقاً للتقرير نفسه فإن 73 في المئة من الفرنسيين يعتبرون الاعلانات التجارية تحتل الحيز العام، وإن 57 في المئة منهم يعتبرونها مبتذلة، في حين عبّر 85 في المئة بأنها تتدخل في حرية خياراتهم التسويقية وتضغط على اتجاهاتهم الشرائية (الشرق الأوسط، 14ديسمبر/ كانون الأول 2015)
وبطبيعة الحال، فإن تلك الشركات الاعلانية ومعها الشركات التي تقوم الأولى بتسويق سلعها تحصد أرباحاً هائلة إذا ما علمنا أن فاتورة الاعلان الواحد لمدة أسبوع واحد فقط تصل إلى ثلاثة آلاف يورو في عدد محدود من اللوحات، وتتضاعف القيمة كلما تلقت الشركات الاعلانية طلبات بمضاعفة عدد اللوحات، فتتضاعف بدورها الأرباح، ومعها يتضاعف انزعاج سكان المدينة مما يعدونه تعدياً تجارياً استفزازياً سافراً على حقهم في الحيز العام.
وما يُلفت النظر أن المرشح البلدي إيريك بيول تمكن بالفعل من الفوز في الانتخابات وأوفى بوعده لناخبيه بتغيير وجه مدينتهم من ذلك الغزو الاعلاني القبيح، وتم سن قانون يلزم الشركات الاعلانية باستخدام التكنولوجيا في العمل الاعلاني، بما في ذلك الانترنت بحيث يُتاح للمواطن حرية مشاهدة الاعلان وليس فرضه عليه فرضاً. ويمنع القانون وضع الاعلانات في الحيز العام، كما يحدد الاأاكن المصرح بشغلها، ويحد من استخدام الاعلانات الورقية إلى أدنى حد ممكن لما لها من أضرار على بيئة المدينة والكوكب.
وستتم إزالة 326 لوحة إعلانية من الحيز العام، وستزرع مكانها أشجاراً تسهم في تخفيف الضغط اليومي الذي يكابده العابرون من رؤيتهم لتلك الاعلانات والتي سيتم زرع مكانها أشجار لما لها من دور في إنعاش رئة المدينة من التلوث.
على أن هذا القانون الجديد بقدر ما أثار ارتياحاً لدى غالبية سكان المدينة الذين انتخبوا بيول رئيساً لبلديتهم فإنه أثار في المقابل موجة من الانتقادات الحادة بغية إجهاضه أو تفريغه من المكاسب البيئية التي حققها، وخاصة من قِبل الشركات الكبرى المتضررة من القانون.
أما لو شاء أي رئيس مجلس بلدي أو محافظ لأي مدينة عربية استقدام عمدة غرونوبل الفرنسي إيريك بيول، كخبير لاستلهام وتنفيذ مشروعه، فليتعوذ من الشيطان، ويرأف بحال هذا العميد مقدماً من صدمة ما سيواجهه من أحوال بيئتها المنكوبة التي لا تُعد ولا تحصى، فهي بحاجة إلى عشرات إن لم يكن المئات من المشاريع والقوانين قبل أن يخطر بباله مجرد التفكير في مشروع بيئي مثالي حالم على شاكلة المشروع الذي حققه لمدينته. فمن أين يبدأ؟ هل يبدأ من ضوضاء المدينة وضجيجها؟ هل من غياب شبكة الصرف الصحي، التي وإن وُجدت فهي غير ذات كفاءة وقديمة متهالكة، الكثير منها تتسرب منها المياه العفنة القذرة قبل أن تصب في البحار أو الانهار كما في العديد من المدن؟ هل من أرصفتها الضيقة والتي تزاحمها لوحات الاعلانات والسيارات المركونة عليها وبسطات أو فرشات البائعين الجائلين، دع عنك الجور الواقع على طوبها باقتلاعه في أحداث المواجهات الأمنية؟ هل يبدأ من الكوكتيل الفريد من نوعه في تجاور الكراجات والورش الصناعية الملوثة للبيئة على اختلاف أنواعها، جنباً ‘إلى جنب مع البقالات والمطاعم وصالونات الحلاقة؟ هل يبدأ من التواجد الدائم الذي يندر أن ينقطع لآليات وعمال حفر شوارعها الجديدة الرصف والتي لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد مرات ومرات طوال العام؟ هل من الغياب شبه الكلي للمساحات الخضراء التي يُفترض أن تحددها كل بلدية المدينة وتكون محمية بقوة القانون من عدوان أي متنفذ كبير لإزالتها خدمةً لمنافعه الأنانية الضيقة؟ هل من الشواطئ والكورنيشات التي خصصتها الدولة العربية نفسها للعوام ثم يأتي متنفذ سلطته فوق القانون ويزيل ما صُرف من المال العام لخدمة العوام فيُدفن المشروع برمته بتحويله إلى مشروع استثماري خاص به؟ أم من سواحل المدينة نفسها المدفونة من جميع جهاتها، دع عنك القرى العربية الساحلية فهذه خارج سياق حديثنا؟ أم من طابعها المعماري العربي الذي تم تشويهه بتلك الأبراج العاتية الطفيلية المعتوهة بقرونها المعوجة في عباب السماء والمشيدة في قلب معالم هويتها العمرانية المميزة؟ وهكذا سيجد العمدة الخبير بيول نفسه أمام دوامة أو سلسلة طويلة من المشاريع المطلوبة التي كما ذكرنا لا تُعد ولا تُحصى وسط حطام أو خراب بيئي شامل للمدينة العربية المنكوبة
وحتى إذا ما افترضنا جدلاً حظي الخبير بيول بدعم كبير غير معهود وحقق معجزة تنفيذ كل تلك المشاريع ليتفرغ لتحقيق توأمة مشروع مدينته لحماية الحيز العام من الإعلانات الفيلية «الدفشة» بالمدينة العربية التي انتُدب إليها فهل سيتمكن من فرض تطبيق القانون بإزالة الاعلانات الدينية المركوزة في الحيز العام على حد سواء مع الاعلانات المبجلة لرموز الدولة العربية الكبار والتي غدت بمثابة حائط بطول الطرق السريعة تحجب الأنظار عما خلفها، بالرغم من أنها كلها متشابهة أو متطابقة في مديحها الركيك المبتذل (تلوث لغوي).
مهما يكن فإن نجاح بيول في قطع ذلك الشوط المهم نحو مدينة صناعية غير ملوثة يُرينا إلى أي حد بلغه الشعب الفرنسي من نضج وتحضر في وعيه البيئي والسياسي معاً، فلولا أن فرنسا تتمتع ببيئة سياسية ديمقراطية صحية لما تمتعت المؤسسة البلدية فيها من سلطات فعلية مستقلة لكونها تُنتخب انتخاباً حراً وتمثل مصالح ناخبيها شأنها في ذلك شأن استقلال السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، فضلاً عن استقلال الصحافة ومؤسسات المجتمع المدني. وما لم تتمكن شعوبنا العربية من تحقيق حلمها في إقامة الحد الأدنى من بيئة سياسية صحية ديمقراطية مماثلة للبيئة السياسية الفرنسية فإن حلمها في توأمة مدنها العربية بمدينة غرونوبل الفرنسية سيغدو ضرباً من الأوهام لا يختلف عن أوهام جماعات البيئة في إمكانية القضاء على التلوث بمعزل عن النضال من أجل بيئة سياسية صحية، ذلك بأن كلا النضالين متلازمان معاً.
ولا يمكن القضاء على فساد البيئة قبل القضاء على فساد السياسة.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4523 - السبت 24 يناير 2015م الموافق 03 ربيع الثاني 1436هـ
احلام
الكتابة عن التلوث بأنواعه المختلفة في مدن الدول العربية هم دائم ومؤلم بجانب التلوث والخنق السياسي الذي لا ضوابط ولا حدود له.... يبدو أن الزمن في هذا القرن قد تجمد في الماضي ولا فكاك من الخروج منه ...مع التحية