ثمة أربع مناسبات تاريخية اعتاد الكتّاب والباحثون العرب تناول التجربة الناصرية من خلالها، إما تمجيداً مغالياً في رائدها الذي ارتبطت باسمه، وهو الزعيم العربي جمال عبد الناصر؛ وإما قدحاً متحاملاً، وإما تقييماً موضوعياً متوازناً. الأولى ذكرى ثورة يوليو التي تحققت بقيادته؛ والثانية في ذكرى هزيمة يونيو 1967 في ظل قيادته لمصر سياسياً وعسكرياً؛ والثالثة في ذكرى وفاته؛ والرابعة في ذكرى ولادته والتي أطلت علينا قبل أيام قليلة.
ولما كان أحد تداعيات الهجوم الإرهابي الأخير على صحيفة «شارلي إيبدو» الباريسية هو إثارة الجدل العالمي حول حرية الصحافة، فلعل من المناسب أن نتناول في هذه الذكرى وضع حرية الصحافة في التجربة الناصرية، وكيف تعامل عبد الناصر معها. يمكننا البدء بالقول إن عبد الناصر كان من أكثر القادة والحكام العرب اهتماماً بالصحافة إلى حد الهوس، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا أكثرهم على الإطلاق. فهو قارئ نهم ليس لما يُكتب في صحافة بلاده فحسب، بل ويحرص على أن تُقدم له يومياً ملخصات وافية مترجمة لأهم تقارير ومقالات كبرى الصحف العالمية. وغنيٌ عن القول إن هذه الخصلة بقدر ما هي جيدة في الحكام إذا ما انطلقت من الرغبة في التثقيف الذاتي وتوسيع معارف القائد، بقدر ما تتحوّل إلى نزعة مرضية تسلطية إذا ما كان الغاية منها ترصد النقد الصريح لسياساته أو أي سلبيات في قيادته، وهذا هو بالضبط لٰب المشكلة وأحد أهم الأخطاء القاتلة في التجربة الناصرية.
يؤكد خالد محي الدين في مذكراته «والآن أتكلم»، وهو أحد الضباط الأحرار من رفاق عبد الناصر الذين قاموا بالإعداد والتخطيط لثورة يوليو 1952: «ظل عبد الناصر طوال حكمه حريصاً على أن يقرأ الطبعة الأولى من كل الصحف اليومية، ويراجعها بنفسه، ثم يصدر تعليمات فورية بأية ملاحظات يراها ليتم تعديل الطبعات التالية على أساسها». ويضيف: «وعندما توليت دار أخبار اليوم كان هناك موتوسيكل مخصص لإرسال أول خمس نسخ تصدر من الطبعة الأولى ليسرع بها إلى بيت عبد الناصر».
أما الكاتب الصحافي إبراهيم نافع، وهو أحد الذين تولوا رئاسة تحرير «الأهرام»، فيصف في حوار أجرته معه مجلة «نصف الدنيا» (عدد 10 مارس 2010)، وضع الصحافة أيام عبدالناصر قائلاً: «تأميم الصحافة أو ما كان يسمونه في ذلك الوقت بتنظيم الصحافة، جعل الحكومة تسيطر تماماً على الصحافة، وبالتالي أصبحت الصحافة تتسم بالصبغة الحكومية، وكانت أقرب إلى النشرات المتقاربة، وبدأ الرقيب في ممارسة عمله وسيطرته على كل ما يُنشر، وبعدها وجدنا الرقيب بدلاً من أن يعطي تعليماته من خارج الصحيفة، أصبح له مكتب يقيم في كل صحيفة وتعرض عليه كل مقالة وكل خبر، وكان الرقيب يعترض أحياناً على مقالة رئيس التحرير».
ومن المفارقات الساخرة أن تأميم الصحافة الذي عُرف بقانون تنظيم الصحافة الصادر عام 1960، سبق قرارات تأميم الممتلكات والمؤسسات الخاصة الكبرى بعامين، والتي عُرفت بقرارات يوليو الاشتراكية (عام 1962). وكان غياب حرية الصحافة من أسباب فشل التأميمات الاشتراكية. فقبل صدور قانون تنظيم الصحافة كانت الصحافة ملكاً للأفراد، ثم أصبحت ملكاً للدولة من خلال النص على تبعيتها للاتحاد القومي، وهو التنظيم السياسي للدولة قبل تنظيم الاتحاد الاشتراكي، وكان لقيادة الدولة حق تعيين رؤساء التحرير واستبعادهم متى شاءت، وظلت الصحافة اليومية المصرية محصورة في صحف ثلاث (الأهرام، الأخبار، والجمهورية) طوال العهد الناصري وجزءًا من عهد السادات الذي وإن سمح بصحافة حزبية، إلا أنها كانت تحت رحمة رقابته الصارمة، إذ طالما تعرضت لضغوط شديدة تتراوح بين سحب العدد من الأسواق أو توقيف الصحيفة لفترات متفاوتة، أو حتى إلغاء الترخيص. ولو أن عبد الناصر اتسع صدره لقبول صحيفة واحدة معارضة على الأقل دون أن يضيق بها، لأمكنه الاستفادة منها أيّما استفادة، ولكشف الفاسدين والانتهازيين والمتملقين سواء في جهاز الدولة أم في التنظيم السياسي للثورة (الاتحاد الاشتراكي)، ناهيك عن المؤسسات التي جرى تأميمها. ولكان الحرص على وجود مثل هذه الصحيفة، إن لم يكن من منطلقات ديمقراطية مبدئية، فعلى الأقل من منطلق أن تكون الصحيفة المعارضة عيناً له في جس نبض المجتمع والناس في قياس متغيرات مدى تقبلهم له ولسلطته أو لمراقبة من يكتب منتقداً السلطة الناصرية سواءً نقداً موضوعياً أميناً مخلصاً أم نقداً متحاملاً مبغضاً، لكن الصحف الثلاث ظلت أشبه بصحيفة واحدة في أخبارها وتقاريرها وتغطياتها التي يستأثر بمعظمها الجانب الدعائي الرسمي للحكومة والقائد؛ وحيث مقالاتها وأعمدتها كلها متشابهة، تكاد تكون مضموناً نسخة طبق الأصل لصحيفة واحدة باستثناء اختلاف الأسماء وأساليبهم الكتابية المميزة. كما ظلت جميعها صدى لاوركسترا تعزف سيمفونية واحدة، رغم اختلاف الآلات الموسيقية، في ترديد مواقف وردح الزعيم في صراعاته مع أعدائه الداخليين والإقليميين والدوليين. وغاب النقد الجاد عنها، اللهم إلا استثناءات محدودة ملساء وحذرة.
والحال لئن يمكننا فهم تلك الإجراءات التأميمية في تجربة تتشبه بالدول الاشتراكية السابقة في أوروبا الشرقية، فإن ما لا يمكن فهمه أن صفة «تأميم الصحافة» وربطها بالسياسات الرسمية للدولة أضحت هي السياسة المتبعة في جُل الدول العربية، فعدا استثناءات محدودة، فإن معظم صحف الدول العربية التي تتباهى باتباع الاقتصاد الحر وإن كانت شكلياً لقطاع خاص، فهي لا تتمتع بالحد الأدنى الكافي من الاستقلالية والحرية عن الدولة العربية الشمولية، وذلك في ظل هيمنة الدولة وتدخلها السافر في شئون الصحافة، وصدور قوانين مقيدة لاستقلالها وحرياتها من قبل برلمانات صورية صممتها وأخرجتها تلك الدول الشمولية.
وإنك لتلمس بأن هذه الصحافة صورةٌ مستنسخةٌ من التجربة الناصرية، إن في مانشيتاتها المتوحدة تقريباً وإن في تغطياتها الدعائية الموسعة للحكومات، وإن في مقالاتها وأعمدة كتّابها الذين يأتمرون بالريموت كونترول خلف الكواليس، حتى في مواقيت الردح السياسي والمناكفة لأية قوى تناصبها الدولة العداء في الداخل أو الخارج. ولو أن الدولة العربية اكتفت بصحيفة شبه مستقلة واحدة معارضة لجعلها ليس فقط كمتنفس وحيد لمن لا صوت لهم من الأقلام والشرائح المهمشة في صحافتها الرسمية عملياً، بل لاستغلالها في كشف ما يموج في قاع المجتمع من ظواهر وأحداث تهمها وتهم أمنها حسب رؤيتها مما قد يجهلها حتى أعتى مخبريها وأجهزتها الأمنية، ولو أنها أيضاً انطلقت على الأقل من مقولة معاوية بن ابي سفيان «لو كان بيني وبين الناس شعرة لما قطعتها، فكلما أرخوها شددتها وكلما شدوها أرخيتها».
نقول لو كانت الدول الشمولية عملت بمثل هذه السياسة ولو لغايات نفعية محضة بعيدة عن الديمقراطية، لكسبت الدول العربية الشمولية ذلك في تعزيز سلطتها، دع عنك تحسين صورتها في الداخل والخارج، ولجعلت من رحابة صدرها وصبرها على تحمل ولو منبر صحافي واحد يتيم دلالةً في يدها على وجود حرية صحافية في بلادها تشهره في وجه من يتهمونها بالدكتاتورية والاستبداد في المؤسسات والمنظمات الدولية.
العدد 4518 - الإثنين 19 يناير 2015م الموافق 28 ربيع الاول 1436هـ