لا مناص من إعادة الاعتبار لسلطة الدولة في الأقطار العربية، فهي وحدها الضامن لتنمية البلاد، واستخدام مواردها بما يخدم مشروع النهوض، لكن شرط تحقق هذا الهدف أولاً وأخيراً هو الانتصار لمفهوم المواطنة.
في حديثي الأخير بصحيفة «الخليج» الإماراتية، كان الموضوع عن الحرب الدولية على «داعش» والسيناريوهات الأميركية المفتوحة، لتحديد مستقبل العراق. تناولت تطور الحرب على «داعش» في الأربعة أشهر الماضية، وكيف أنها حتى هذه اللحظة لم تتمكن من تحقيق أي منجز استراتيجي على طريق استعادة الأراضي التي احتلها التنظيم الإرهابي، والتي تقارب ثلث مساحة الأراضي العراقية.
أثناء كتابة هذا الحديث نقلت لنا أخبار المملكة نبأ هجوم إرهابي على حدودنا الشمالية، في منطقة عرعر، أدت إلى استشهاد عدد من رجال الأمن. ومن جهة أخرى، تناقلت وكالات الأنباء نبأ صراعات مختلفة بين الميليشيات الإرهابية في سورية، بين «داعش» وبين «جبهة النصرة»، في عدد من المحافظات السورية، وبين صراع مسلح يقوده زهران علوش «قائد جيش الإسلام» في مواجهة الجيش الحر بالغوطة الشرقية.
تأتي هذه التطورات متزامنةً مع مناقشة البرلمان الأردني الانسحاب من التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وأحاديث عن وساطة يقودها رئيس الحكومة العراقية سابقاً، إياد علاوي، بين تنظيم الطريقة النقشبندية والحكومة العراقية التي يقودها حيدر العبادي، ووسط سعي من الحكومة المصرية، بتوجيه من الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى إجراء مفاوضات بين الحكومة السورية وأطراف المعارضة، للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة في السورية، التي مضى عليها قرابة أربع سنوات، وحصدت في طريقها ما ينوف على الأربعمئة ألف قتيل، عدا الجرحى والمشردين، وكلف هائلة في الأموال والممتلكات.
تقودنا هذه المقدمة إلى موضوع مهم لم يأخذ نصيبه من المناقشة بين المفكرين والكتاب، هو استخدام السلاح كأسلوب قسر من أجل إجراء تحولات سياسية. وهو أسلوب قديم جرى استخدامه أثناء معارك التحرر الوطني، وبشكل خاص بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ونجح مرات وفشل مرات. وكان للنجاح أسبابه كما للفشل أيضاً أسبابه.
وينبغي في هذا السياق التمييز بين الكفاح الوطني ضد المحتل، وبين استخدام السلاح ضد الدولة، أياً يكن الموقف السياسي منها، ففي الأولى هناك دفاع عن النفس، وموقف أخلاقي تقره شرعة الأمم، حق تقرير المصير، ويحظى هذا النوع من الكفاح في الغالب بإجماع وطني، فيصبح الشعب بأسره حاضنة اجتماعية لهذا الكفاح.
في الحالة الأخرى يتفق علماء السياسة والاجتماع على أن الدولة هي أرقى ما وصل إليه التطور الإنساني، من أداة لتنظيم وإدارة العلاقة بين أفراد المجتمع الواحد. وأنها والحالة هذه، كما يرى هيجل، فوق المجتمع، وربما تتخذ قرارات قاسية بحق بعض أفراده، لكنها في النهاية تخدم الهدف الأجل، وهو خدمة المجتمع. وقراراتها في كثير من الأحيان تكون موضع جدل وخلاف، لكنها في النهاية هي الضامن لأمن المجتمع واستقراره.
انهيار الدولة يعني العودة إلى صيغة المجتمعات البدائية، وتهديد أمن المواطن واستقراره، وتعطيل مصالح الناس. وهو أمرٌ لا يخدم بالتأكيد نهوض المجتمع وتطوره، ولا يسهم في لحاقنا بالعصر الكوني الذي نعيش فيه.
في السنوات الأربع الأخيرة، شهدت البلدان العربية ما عرف بالربيع العربي. وبشكل رئيسي، مر هذا الربيع ببلدان خمسة، هي تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية. وقد جاء ذلك في شكل حركات احتجاجية، سلمية في مراحلها الأولى، انتهت في تونس ومصر بتنحي قمة الهرم، وبالمرور في مرحلة سياسية انتقالية. تكللت بالنجاح في تونس وتعثرت في مصر، لتشهد تحولاً آخر في 30 يونيو 2013. واتجهت مصر مجدداً نحو استكمال مرحلتها الانتقالية، ولم يتبق عليها سوى إجراء الانتخابات النيابية، المزمع إجراؤها في شهر مارس/ آذار المقبل.
في كل الحالات التي أشرنا إليها، نشطت جماعة الإخوان المسلمين، واستثمرت حالة الاحتقان الاجتماعي والسياسي من أجل القفز إلى السلطة، باستخدام الوسائل السلمية وغير السلمية. لكن الدولة العميقة في مصر وقفت بالمرصاد لتطلعات الجماعة، ولم تمكنها من تحقيق أهدافها.
تسلم الجيش المصري قيادة الدولة الانتقالية، وحال دون تفسخ الدولة وانهيارها. وبالمثل وقف الجيش والأمن التونسي، وشكل سداً منيعاً حال دون انهيار الدولة التونسية. ولكن ذلك لم يتم من غير كلف قدمها البلدان، ولا يزالان يقدمانها، في مواجهة التطرف والإرهاب، المدعوم من قبل جماعة الإخوان.
في الحالة الليبية استخدم العنف من قبل السلطة الحاكمة الممثلة للدولة، ومن قبل الثائرين أيضاً. وحدث أن استراتيجية الدول الكبرى رأت مصلحة لها في إزاحة النظام القائم، والانحياز للمعارضة، التي ضمت الإخوان والقاعدة وفصائل متطرفة أخرى.
وكان بالإمكان أن نجادل لمصلحة العنف لو أن الأمور استقرت في ليبيا، وأن الشعب الليبي، قد تمكن فعلاً بعد سقوط القذافي من الإمساك بزمام مقاديره. لكن ما رأيناه على الأرض هو انهيار الدولة الليبية، وتغوّل الحركات الإرهابية في معظم المدن والبلدات الليبية. لقد تأكد بما لا يقبل الجدل أن عسكرة الحركة الاحتجاجية قد أدت إلى ضياع الدولة، وبالتالي تعطل مصالح الناس، وتهديدهم في ممتلكاتهم وأعراضهم.
في سورية واليمن ضعف دور الدولة، وجرى تدوير للقوى التي قادت الحركة الاحتجاجية، حيث لم تعد الأهداف الأصلية التي طرحتها الحركة الاحتجاجية في البلدين الشقيقين تطرح الآن مطلقاً، في أدبيات عناصر الإرهاب، التي فاقت في جرائمها وأفعالها الشنيعة ما يمكن لأي عقل تصوره. وآخرها الزحف الحوثي على معظم أراضي الشطر الشمالي من اليمن. وتزامن ذلك مع تصاعد نشاط تنظيم القاعدة. وفي سورية تسيطر جماعات الإرهاب على محافظات عدة، مهددة وحدة البلاد ووجود الدولة.
لا مناص من إعادة الاعتبار لسلطة الدولة في الأقطار العربية، فهي وحدها الضامن لتنمية البلاد، واستخدام مواردها بما يخدم مشروع النهوض... لكن شرط تحقق هذا الهدف أولاً وأخيراً هو الانتصار لمفهوم المواطنة، المستند على الندية والتكافؤ والمساواة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4512 - الثلثاء 13 يناير 2015م الموافق 22 ربيع الاول 1436هـ