يدخل المثقّف العربي الآن في الحقبة الرابعة من تاريخ الأدوار التي لعبها في الدولة العربية الحديثة.
في الحقبة الأولى، مباشرةً بعد الاستقلال من الاحتلال الاستعماري، لعب دور المدافع عن مبادئ وتطبيقات السياسة الليبرالية بما تأتي به من ديمقراطية دستورية مشابهة إلى حد كبير للممارسة الليبرالية الأوروبية. لقد كانت حقبة افتتان العبد المتحرّر الجديد بأطروحات سيّده القديم. إبّان تلك الحقبة لعب المثقّف دور الموجِّه والمجدِّد، وكان دوراً مقدّراً ومحترماً من قبل العامّة.
في الحقبة الثانية، عندما صعد نجم الدولة العربية الوطنية الشعبوية بشعاراتها القومية الثورية واليسارية، انغمس المثقف بكليَّته في النضال السياسي، وحاول أن يلعب دور المثقف العضوي الغرامشي الملتزم بقضايا أمته ووطنه. في هذه الحقبة اقترب المثقف من السلطة إلى حدٍ خطر، وتناغمت أدواره مع أهداف السلطة إلى حدود الذّوبان في داخل كؤوسها. وعندما وعت العامة أخطاء وخطايا الدولة الشعبوية انعكس ذلك سلباً على نظرة العامة للمثقف العربي ومكانته.
في الحقبة الثالثة، التي أعقبت تراجعات الدولة الوطنية الشعبوية، والتي حلّت محلها الدولة المرتبطة بمشيئة الخارج سياسياً، والمتبنيٍة لليبرالية الاقتصاد الرأسمالي العولمي المتوحّش المنفلت من الالتزامات الاجتماعية، ضعف دور المثقف العربي الذي رأت فيه تلك الدولة المنخورة بالفساد مصدرَ إزعاجٍ ونقدٍ لتوجّهاتها في السياسة والاقتصاد. إبّان تلك الحقبة تهمّش دور المثقّف العربي العضوي خصوصاً بعد أن نجحت بعض قوى الحكم في تبنّي أيديولوجيات مغوية تستهوي الطبقة المتوسطة الميسورة، الأمر الذي جعل مثقفي تلك الطبقة ينبرون لترويج تلك الأيديولوجيات التي في محصّلتها تسوِّغ تحكّم القلة بكل أنواع الثروة والوجاهة والامتيازات، وتسوّغ ارتباطاتها النفعيّة بالخارج على حساب الاستقلال الوطني والقومي. إبّان تلك الفترة كانت الاحتجاجات مسموحاً لها، مهما كان صوتها عالياً، طالما أنها كانت لا تؤدي إلى إزاحة أحد أو تغيير وضع.
اليوم، بعد ثورات وحراكات الربيع العربي، بانتصاراته وهزائمه، تدخل الدولة العربية، ومعها المثقّف العربي، حقبة رابعة، بالغة التعقيد والمخاطر. بعد الحقبة الثالثة التي همش فيها المثقف العربي واستسلم للعب دور المتفرّج، وأحياناً الانتهازي الزَّبون، تطرح الحقبة الرابعة على المثقّف العربي سؤالاً لا مفرّ منه: أيُّ دور يجب أن يلعبه المثقف العربي إبان هذه الحقبة المليئة بالغموض والمفاجآت والآمال واليأس؟
يحتاج هذا السؤال إلى أن يُجاب عليه من قبل المثقفين العرب، وفي اعتقادي أن الإجابة يجب أن تأخذ الآتي بعين الاعتبار:
أولاً: هناك توجُّهٌ جديدٌ لدى الكثير من الدول العربية للاعتماد في الخارج على شركات ومراكز العلاقات العامة، خصوصاً الغربية منها، وفي الداخل على شبكات إعلامية رسمية أو خاصة مشتراة، وذلك من أجل تسويق شرعية وصحة أيديولوجياتها في السياسة والاقتصاد. وهي في هذه الحالة تشعر بأنها ليست في حاجةٍ للمثقّف كما كان الحال في الماضي.
هذه التوجهات الجديدة، مع التهميش الذي تميّزت به الحقبة الثالثة، يجعل المثقّف العربي خارج السلطة وخارج الشعب، وهو وضعٌ بالغ السُّوء بالنسبة للعب دوره التاريخي في نهضة مجتمعه.
ثانياً: على ضوء ذلك، فإن هناك حاجةً ملحّةً لتأسيس علاقة جديدة متينة بالشعب، وخصوصاً بشبابه وشاباته. وهي علاقات تحتاج أن تبنى على أسس إبداعية جديدة، تأخذ في الاعتبار الإفرازات الشعورية والتغيّرات النفسية عند الجماهير التي حملتها نسائم الربيع العربي منذ أربع سنوات.
في الماضي كثر الحديث عن «تجسير الفجوة» بين المثقّف العربي والسلطة، أما الآن، فبعد ما طرحته جموع غفيرة من الشعب العربي في ميادين أكبر العواصم العربية من شعارات وأحلام وتطلعات، فإن تجسير الفجوة بين المثقف العربي والشعب يجب أن تكون له الأولوية.
ثالثاً: على ضوء تجارب الماضي، يحتاج المثقف العربي أن يحتفظ بمسافة معقولة بينه وبين السلطة، تتيح له قدراً ضرورياً من الاستقلالية في التحليل والنقد والمساهمة في إنتاج فكر يتطوّر باستمرار. هذه المسافة لن تعني العيش في صراعات ومماحكات مع سلطة الدولة، وإنما لممارسة الحرية التي بدونها لن يوجد فكر إبداعي مفيد.
رابعاً: إن كل ذلك يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع وجود فئة خاصة من المثقفين، تركّز على توليد وحمل المعرفة اللاًزمة لصياغة رؤية عربية جديدة للعالم وللمجتمع العربي وللإنسان العربي، تقترح بديلاً عن الوضع القائم المتردّي الذي تعيشه الأمة حالياً بسبب تكالب المحن والإحن على مسيرة الربيع الذي أرادته لنفسها منذ أربع سنوات. إنها انحيازٌ للحقيقة بدلاً من الانحياز لمطالب القوة والعبث السياسي. إنها حمل لمهمة خلق المستقبل وليس فقط الاكتفاء بتحليل ونقد ما يجري في الحاضر.
لن تكون مهام المثقف العربي في الحقبة الرابعة سهلةً، لكنه قدرٌ يجب أن يقبله ويحمل مسئولياته.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4507 - الخميس 08 يناير 2015م الموافق 17 ربيع الاول 1436هـ