أحيت السفارة الفلسطينية بمملكة البحرين يوم الأربعاء الماضي (31 ديسمبر/ كانون الأول 2014) ذكرى «اليوبيل الذهبي» لانطلاقة الكفاح المسلح عبر بوابة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) من أجل تحرير فلسطين التاريخية. وقد حظِيتُ بشرف مشاركة إخواننا الفلسطينيين هذه الذكرى العطرة من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني وحاضره. وقبل إضاءة الشعلة بالمناسبة، أخذنا سعادة السفير الفلسطيني خالد عارف (أبو أدهم) في جولة سريعة تستحضر رموز النضال الفلسطيني وعلى رأسهم الشهيد القائد ياسر عرفات. وقد أرجعتنا كلمة السفير إلى البداية... إلى تاريخ 1 يناير/ كانون الثاني 1965 لنحصي خمسة عقود من النضال العسكري والسياسي والشعبي. نضالٌ أصبح مدرسةً لكافة حركات التحرر في العالم، وأنهى بالكلمة السحرية «وإنها لثورة حتى النصر».
نعم كلمة السفير والموسيقى الاحتفالية المصاحبة على أنغام أناشيد الثورة الفلسطينية، ثمّ إضاءة الشعلة... كلّ ذلك أجبر ذاكرتنا على العودة إلى ماضٍ مجيدٍ، حيث نصف قرن من النضال الفلسطيني المسلح، كما أجبرت عقولنا على التأمل والوقوف عند بعض المحطات والرموز التي لا يمكن المرور دون استحضارها. غير أنّ هاجس المقارنة بين تلك اللحظة التاريخية منذ نصف قرن واللحظة الفلسطينية والعربية الراهنة ينوء بكلكله على المتابع.
لنبدأ الحكاية من البداية، أي مع انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة في الأول من يناير 1965، ومن المحيط العربي الذي حفّ بهذه الانطلاقة؛ فلقد اتسمت العلاقات العربية العربية بالخلاف والفرقة والتشتت، لا من منطلق صراع الزعامات (عبد الناصر، بورقيبة، الأسد...) المفتونة بانتصاراتها الوطنية فقط، وإنما أيضاً حتى من منطلق المصالح والحسابات الإقليمية والدولية عشية تحقيق الاستقلال في هذه الدول العربية.
وبعد خمسين سنة وفي ذكرى اليوبيل الذهبي لانطلاقة الكفاح المسلّح عبر بوّابة منظمة التحرير الفلسطينية، نجد الحالة العربية في ظروفٍ أسوأ، فالخلافات ازدادت وبانت، والشقة اتسعت لا بين الدول بل داخل الدولة الواحدة إن لم تقسّم بعد إلى دولتين أو فيدراليات. ولم تستطع المحاولات العديدة من هنا وهناك، رأبَ الصدع ولا لمّ الشمل، ولا تَسَل عن الجامعة العربية أيّان ملتقاها؟ ولا تسل -إن التأمت قممها- عن مخرجاتها؟ ثمّ، وهذا الأهمّ، لا تسل عن مدى تلاحم مواقفها من الكفاح الفلسطينيّ المسلح؟
قبل خمسين عاماً، كانت البلاد العربية تشهد مداً قومياً ووطنياً؛ فلقد نالت الدول العربية استقلالها من المستعمرين، وكان المد القومي الشعبي يحول دون التلميح قبل التصريح باحتمال التفاوض أو نية الاعتراف بالكيان الصهيوني. وبقيت القضية الفلسطينية تتبوّأ المركز من سلّم أولويات الدول العربية، وهو ما جعل شعلة الكفاح المسلح متقدة.
أمّا اليوم، وبعد نصف قرن من الزمن العربي المعاصر، فقد دخلت العديد من الدول العربية المؤثرة في القرار العربي، قديماً وحديثاً، في علاقات تفاوض مباشر وغير مباشر؛ فكانت معاهدة «كامب ديفيد» ثم معاهدة «أوسلو» الشهيرتين وما تلاهما من اتفاقات وتعهّدات، واقتنع تيار عظيم من العرب والفلسطينيين أن المفاوضات من شأنها أن تحقن الدماء الفلسطينية وأن تعجّل بقيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. لكن الكيان الصهيوني ضرب بمعظم هذه الاتفاقات عرض الحائط وسلك سياسة الهروب إلى الأمام، بمزيد إزهاق الأرواح وتهديم بيوت الفلسطينيين وإقامة المستوطنات وتهويد مدينة القدس والاعتداء المتكرر على بيت المقدس.
وفي هذا السياق المرير تأتي تصريحات رئيس وزراء الكيان الصهيوني وعدد من قياداته السياسية والأمنية، بشأن ما أقدم عليه الفلسطينيون مؤخراً من محاولة استصدار قرار يوجب إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض المحتلة العام 1967 (الضفة الفلسطينية وغزة) وإقامة الدولة المستقلة، فكان القرار الصهيوني بمنع تحويل أموال الضرائب وتجميد نصف مليار شيكل (127 مليون دولار) من عائدات الضرائب الفلسطينية، عقب التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية ردّاً على تقديم طلب الانضمام لمعاهدة روما، وما ذلك إلا صورة من صور العقاب الجماعي للفلسطينيين.
وليس ببعيد عن ذلك حادثة استشهاد رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، البطل الوزير زياد أبو عين (أبو طارق) عضو المجلس الثوري لحركة «فتح»، إثر إطلاق قوات الاحتلال قنابل الغاز عليه والاعتداء عليه بأعقاب البنادق بشكل وحشي وهمجي وهو يدافع عن الأرض متحدياً الاستيطان، متقدّماً الصفوف وهو يزرع أشجار الزيتون في بلدة ترمسعيا شمال رام الله دفاعاً عن الأراضي المهدّدة بالمصادرة والاستيطان.
قبل نصف قرن كانت الدول العربية «الكبرى» في أوج شموخها واعتزازها بنفسها وباستقلالها الذي حققته بفضل الكفاح المسلح أو بحكم قوة اتخاذ القرار (المقاطعة الاقتصادية، سلاح النفط). أمّا اليوم، فالدول العربية الكبرى والمؤثرة اقتصادياً وجغرافياً وسياسياً، تغرق في تحديات أمنية داخلية، بسبب نشوء حركات التطرف الديني التي وجّهت فوهات بنادقها إلى إخوانها في الوطن والتاريخ واللغة بدل أن توجّهها إلى المحتل الصهيوني، ما جعل هذه الدول تشقى في محاربة هذه التنظيمات التي اتخذت من السلاح وسيلةً للتغيير فكان التدمير وما سورية أو ليبيا إلا حرقتين في القلب العربي.
بعد خمسين سنة، وبعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما ارتبط به من مواثيق تؤكّد حق الشعوب في تقرير مصيرها، بعد خمسين سنة تغيرت أشياء كثيرة في الشرعة الدولية والسياسات الخارجية للدول الغربية ولا سيما الأوروبية، بعد خمسين سنة لم يبق على العهد وفياً مطلق الوفاء سوى القرار الأميركي المرتهن للوبي الصهيوني الذي ما فتئ يعرقل كل جهود للسلام باستخدام حق النقض (الفيتو) في القرارات المهمة لمجلس الأمن.
هكذا يتبين بما لا يدع مجالاً للشك، أن في هذه الذكرى الخمسين لاندلاع الكفاح المسلح عبر بوابة منظمة التحرير الفلسطينية، أنّ هناك ثابتاً ومتحولاً: أمّا الثابت فهو الموقف الصهيوني ومن ورائه السياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، وأمّا المتحول فهو الحالة العربية الداخلية والخارجية والمشهد الفلسطيني العام، إلى جانب التغيرات الإقليمية والتوازنات الجديدة التي حوّلت القضية الفلسطينية من قضيةٍ مبدئيةٍ إلى ورقة ضغط إقليمية ودولية.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4504 - الإثنين 05 يناير 2015م الموافق 14 ربيع الاول 1436هـ
لا بد أن تعود فلسطين إلى المركز
القضية الفلسطينية لا بد أن تكون قضيةٍ مبدئيةٍ في كل قضايا العرب
إنها لثورة حتى النصر
كلمة سحرية عند الأخ الشهيد أبو عمار
وهذا الخطير
وأمّا المتحول فهو الحالة العربية الداخلية والخارجية والمشهد الفلسطيني العام، إلى جانب التغيرات الإقليمية والتوازنات الجديدة التي حوّلت القضية الفلسطينية من قضيةٍ مبدئيةٍ إلى ورقة ضغط إقليمية ودولية.