العدد 45 - الأحد 20 أكتوبر 2002م الموافق 13 شعبان 1423هـ

الأحزاب التونسية: أزمة أفق وخلافات على جوهر الديمقراطية

استعدادا للانتخابات البرلمانية التي ستعقد في 2004

صلاح الدين الجورشي comments [at] alwasatnews.com

.

يجري الحديث في تونس هذه الأيام عن أزمة الأحزاب السياسية المعترف بها من قبل السلطة. ويكاد هذا الحديث أن يصبح موسميا يتكرر مع كل مناسبة انتخابية أو انعقاد مؤتمر لهذا الحزب أو ذاك. فالتونسيون يكادون يتفقون على معاينة الضعف الشديد الذي تشكو منه كل التنظيمات الحزبية باستثناء الحزب الحاكم، الذي يعتقد الكثيرون أنه لولا الدعم اللامحدود الذي يتلقاه من الدولة لاشترك مع البقية في الأزمة. بل هناك من يذهب إلى أكثر من ذلك ليؤكد أنه من زاوية العلوم السياسية والاجتماعية يعتبر من المجاز إطلاق صفة الأحزاب على هذه التنظيمات العاملة سواء في الساحة التونسية، أو في معظم البلاد العربية. فهي أقرب إلى النوادي السياسية أو ما يطلق عليه في مصر بأحزاب تحت التأسيس. وإذا كانت هذه العبارة ذات شحنة قانونية يقصد بها في السياق المصري الوضعية التنظيمية التي تسبق الاعتراف الرسمي والقانوني، فإنه في السياق التونسي يراد القول إن الناشطين في الحقل السياسي خارج الهياكل الرسمية لم ينجحوا طيلة السنوات الطويلة في تأسيس أحزاب حقيقية، تتوافر فيها المقومات الأساسية للحزب كمفهوم حديث.

رسميا توجد في تونس سبعة أحزاب، أحدها وهو «التجمع الدستوري الديمقراطي» يمارس الحكم منذ استقلال البلاد، ويستثمر طيلة نصف قرن ورقة الشرعية التاريخية نظرا إلى دوره الطلائعي في قيادة الحركة الوطنية، ثم بناء الدولة. هذا الحزب أسسه العام 1920 شيخ مناضل ذو نزعة تجديدية اسمه عبدالعزيز الثعالبي، من أشهر كتبه «الروح الحرة في القرآن» التي حدد فيها نظرته العقلانية للإسلام، وكتاب «تونس الشهيدة» الذي بلور فيه رؤيته السياسية. فالثعالبي كان من إفرازات حركة النهضة العربية التي عرف معظم روادها بحرصهم على الربط بين النضال الوطني على الصعيد السياسي وبين التجديد الديني على الصعيد الثقافي.

بالنسبة إلى بقية الأحزاب الأخرى المعترف بها، فهي تتفاوت في حجمها وفي ظروف نشأتها، وتحليلها للأوضاع المحلية، وعلاقتها بالسلطة. لكنها عموما تمر بمرحلة ضعف شديد، ولم تتمكن من أن تصبح طرفا يؤخذ في الاعتبار في صناعة القرار المصيرية أو حتى غير المصيرية، على رغم لجوئها إلى عدة «استراتيجيات»، وعلى رغم الباع الطويل لبعضها في العمل السياسي. فـ «حركة التجديد» مثلا هي الوريثة من الناحية التنظيمية للحزب الشيوعي التونسي الذي تأسس بدوره في مطلع العشرينات من القرن الماضي، وتم إعلان انتهاء دوره في مطلع التسعينات مع الوعد بالانتقال إلى مرحلة فكرية وتنظيمية جديدة. لكن هذه المرحلة الموعودة لم تتشكل بعد معالمها ولم تحقق أهدافها إلى الآن. وهو ما جعل الحركة تعيد النظر خلال مؤتمرها الأخير في استراتيجيتها، بحثا عن الشرعية، ورغبة في بناء «قطب تقدمي ديمقراطي».

لا تحتاج مظاهر ضعف الأحزاب إلى تدليل، فهي جلية في قلة كوادرها وأنصارها، ومحدودية انتشارها، والعجز عن التأثير في القرار السياسي. لكن من التجني عليها تحميلها وحدها مسئولية ضعفها وعزلتها. وحتى لا نغرق القارئ، وتحديدا غير المطلع على تفاصيل الساحة التونسية، يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى ثلاثة عوامل ساعدت على تعميق أزمة المعارضة التي تعود إلى ما قبل الثمانينات:

1- تشكو المعارضة التونسية عموما من فقدان الحريات المساعدة على النشاط والانتشار. وتؤكد أن حركتها مقيدة بقوانين وإجراءات تجعل السلطة هي الطرف الوحيد المنظم للحياة السياسية والحزبية. هذا الأمر لا تؤكده فقط الأحزاب التي توجد حاليا في حال قطيعة مع السلطة، ولكن تقر به أيضا الحركات التي تربطها بالحكم علاقات تعاون ومؤازرة. فجميعها تقريبا يطالب بتحرير الإعلام، وتنقية المناخ السياسي، وفصل الحزب الحاكم عن الدولة.

2- تفاقم الخلافات داخل الأحزاب، مما زاد في إضعافها وانقسامها على بعضها، إذ لا تمر فترة وجيزة حتى تتخذ قيادة هذا التنظيم أو ذاك قرارا بطرد عضو أو مجموعة أعضاء بتهمة عدم الانضباط والخروج على ثوابت الحزب.

3- فشل كل محاولات التكتل والتنسيق بين أحزاب المعارضة، مما جعلها أشبه بالجزر الصغيرة المتناثرة، وبالتالي غير قادرة على منافسة الحزب الحاكم، أو تشكيل قطب معارض قوي. فبالإضافة إلى صراع الزعامات، يوجد اختلاف كبير في تكتيكات هذه الأحزاب، وأسلوب عملها، وأولوياتها.

هذا العجز عن الفعل والاستقطاب، جعل معظم الأحزاب القانونية تراهن منذ مطلع التسعينات على استبدال أسلوب الضغط على السلطة بمنهج التعاون معها مقابل التدرج في الحصول على مكاسب ومواقع من شأنها أن تعزز من مكانتها وتفعيل دورها في الحياة العامة. وساعدها على ذلك عاملان:

الأول، خلافا للرئيس الحبيب بورقيبة الذي كان ينبذ مبدأ المعارضة، ويرى فيها أطرافا مناوئة لسلطته ومنافية للوحدة الوطنية، عمل الرئيس زين العابدين بن علي على إدماج عدد من الأحزاب في خطته السياسية، وجعل منها عنصرا من عناصر حكمه. فبعد توليه السلطة اعترف بحزبين جديدين أحدهما «التجمع الاشتراكي التقدمي» يسمى الآن «الحزب الديمقراطي التقدمي» الذي ولد من رحم اليسار الراديكالي التونسي ليشق طريقه تدريجيا نحو بناء حزب متعدد التيارات الفكرية، والثاني «حركة التجديد». كما دخلت السلطة في مشاورات مستمرة مع معظم قيادات الأحزاب القانونية، وقدمت إلى معظمها الدعم المالي، ومكّنت أغلبها من حصة في البرلمان والبلديات، وفتحت لها أبواب المشاركة في المجالس الاستشارية.

الثاني، وقوف معظم هذه التنظيمات مع السلطة في معركتها ضد «حركة النهضة» المحظورة، التي وجدت نفسها معزولة في مطلع التسعينات، بعد أن كانت تربطها ببقية الأحزاب علاقات تنسيق خلال الثمانينات. وهكذا تحول الصراع ضد الإسلاميين إلى أرضية التقاء دعمت علاقة الحكم بهذه الأحزاب.

بعد سنوات من التمسك بمنهج التعاون مع السلطة، تتباين الاراء اليوم في تقييم هذه التجربة. فغالبية الأحزاب المعترف بها مازالت متمسكة بهذا الاختيار الذي لا ترى عنه بديلا. وهي تعتقد، على رغم إقرارها بوجود عوائق ونواقص كثيرة، بأن ذلك المنهج ينسجم أكثر من غيره مع الحال التونسية التي تتسم بالاختلال الكامل لموازين القوى لصالح النظام، إضافة إلى المكاسب الكثيرة التي حققتها هذه التجربة.

مقابل ذلك يعتقد حاليا أنصار حركتي «التجديد» و«الحزب الديمقراطي التقدمي» أن فكرة المراهنة على السلطة لتقوية دور المعارضة فكرة غير منطقية، وتتضارب مع مبدأ الصراع الديمقراطي، ولن تؤدي في النهاية إلا إلى تعددية محدودة أو شكلية.

أصحاب هذا الطرح لا يرفضون مبدأ الحوار مع السلطة، لكنهم يتمسكون بأن يكون ذلك من منطلق المسئولية، وأن تكون الخريطة السياسية إفرازا لحركة المعارضة داخل المجتمع، وعن طريق انتخابات شفافة ونزيهة، وليست محصلة توزيع أدوار بحسب إرادة السلطة وأولوياتها ومصالحها.

هاتان الحركتان، إلى جانب عدد من التنظيمات الناشئة مثل «التكتل من أجل الديمقراطية» الذي يقوده مصطفى بن جعفر، و«حزب المؤتمر من أجل الجمهورية» أو «الحزب العمالي الشيوعي التونسي» الماركسي التوجه، أصبحت تمثل الأحزاب الواقفة على غير أرضية السلطة، والتي تحاول أن تنسق فيما بينها. لكنها مختلفة بينها على عدة مسائل جوهرية، في مقدمتها الموقف من مبدأ التنسيق مع الإسلاميين. بعضها يرى في ذلك منزلقا خطيرا، وإجهاضا لكل محاولة بناء قطب ديمقراطي فاعل، اعتقادا من أصحاب هذا الرأي بأن «حركة النهضة» معادية للديمقراطية، ومهددة للحداثة. وبعضها يعتقد أن الإسلاميين جزء لا يتجزأ من المشهد السياسي، وأن محاولة إدماجهم في اللعبة الديمقراطية، أفضل من إقصائهم.

وبقطع النظر عن هذه المواقف والتباينات، فإن السنة السياسية الحالية ستكون حاسمة في حياة هذه الأحزاب المدعوة إلى الاستعداد سياسيا وتنظيميا للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستجري في تونس سنة 2004

العدد 45 - الأحد 20 أكتوبر 2002م الموافق 13 شعبان 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً