تعتبر موجة الارهاب التي تعم كثيراً من الأقطار العربية والإسلامية، من أخطر الظواهر المقوّضة لأمن ووحدة شعوب المنطقة. فبعد أن ضربت بمعاولها الهدامة دولتين عربيتين هما سورية والعراق، باتت الآن تهدد دولاً أخرى محيطة، مستغلةً بذلك غفلة هذه الشعوب والأنظمة وانشغالها ببعضها البعض. فهذا الانشغال هو الذي يوفّر الأرضية لقوى الإرهاب للتسلل إلى داخل الأوطان تحت ذرائع قد تطرب آذان البعض، الذي بات يتناغم مع ما تسوقه قوى التطرف من مبررات.
وقد رأينا كيف فعل الإرهاب بأهالي المناطق التي دخلها، سواءً في العراق أو سورية، حيث لم تستثني قوى التطرف هذه أحداً من القتل والسبي والاغتصاب.
والإرهاب فكر لا يأتي من فراغ. فعندما يقدم إنسان على تفجير نفسه لقتل أخوةٍ له في الدين والوطن، فإنّما يفعل ذلك بوحي من قناعة بصحة ومشروعية هذا الفعل على رغم بشاعته. وهذه القناعة ليس لها أن تتكون من دون عملية غسل دماغ ممنهجة تحوّل المشاعر إلى مفاهيم خاطئة، ومن ثم إلى عقيدة تصاحبها أفعال تتناغم مع هذه العقيدة.
وكما يقول أستاذ علم السلوكيات في جامعة «هارفرد»، البروفيسور توني ايثوس، فإن المعتقد يتكون من تحول المشاعر إلى مفاهيم خاطئة وقناعات ثم معتقد. وهذه المرحلة الأخيرة هي الأخطر، لكونها تدفع بصاحبها للتضحية بحياته من أجل ارتكاب أعمال شريرة. وتصبح هذه العقيدة أشد فتكاً عندما تستند إلى قاعدة دينية لها قدسيتها في عقول المنتمين إليها.
دور الأعلام في شحن التطرف
تلعب المنابر الإعلامية والدينية دوراً متكاملاً في عملية غسل دماغ الأفراد وخلق قناعاتهم. فعندما تعزز وسائل الإعلام والمنابر في المجتمع غريزة الخوف بجميع أشكاله من الآخر، تتشكل مفاهيم خاطئة تدفع بأفراد المجتمع إلى التكتل لدرء هذا الخطر حتى وإن كان خطراً وهمياً.
وليس من الصعوبة بمكانٍ أن تعدم وسائل الشحن هذه وسيلة لتنفيذ أغراضها، كاستغلال أخطاء الآخر أو افتعالها عند اللزوم، أو البحث عن مصادر في النسيج الاجتماعي والثقافي لتحقيق أهدافها.
الدور المادي
عندما تتحوّل المفاهيم الخاطئة تجاه الآخر إلى عقيدة، تصبح التضحية بالمال والنفس لحماية هذه العقيدة من أعدائها المفترضين واجباً مقدساً. وهذا ما يفسر لنا حجم الموارد المالية المتوفرة لقوى الإرهاب والتطرف، والتي أصبحت بتنوعاتها تملك استثماراتٍ على غرار الشركات الكبرى.
وإذا ما أخذنا في الإعتبار التمويل المالي الهائل والخفي من جهات رسمية وأخرى خيرية، وكذلك التسهيلات الإدارية المتمثلة في غض جهات سياسية إقليمية وعالمية عن حركة التدفقات المالية لهذه القوى الإرهابية لأسباب سياسية معروفة، فإن الغموض والاستغراب يزول بشأن الحجم الهائل لقوة هذه التنظيمات الإرهابية، التي أصبحت تهدّد حتى داعميها من أنظمة وشعوب.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أفادت تقارير مالية أن التنظيمات الإرهابية في سورية، تمكّنت خلال فترة الصيف الماضي، من بيع ما قيمته ثمان مئة مليون دولار من النفط السوري في السوق التركية. وقد ساهمت شركات عالمية بخبراتها في العملية اللوجستية والتسويقية.
الموروث التاريخي
لعقيدة الأرهاب جذورٌ في التاريخ العربي الإسلامي لا تخفى على أحد. وهذا ما يفسّر لنا سرعة انتشارها في أقطارنا العربية خصوصاً. فبمجرد إزالة القشرة الحضارية الرقيقة التي تشكّلت في وجدان مجتمعاتنا العربية إبان بعض العصور الذهبية، فإذا بنا أمام كمٍّ هائلٍ من موروث تاريخي مليء بالدم والحرابة وجزّ الرقاب.
وهذا الموروث التاريخي الثقيل يكفي وحده لتمكين أية قوة معادية من استحضاره بسهولة، لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء، كما هو الواقع الفعلي الذي تعيشه معظم أقطارنا العربية في الوقت الحاضر.
إن التخلص من ظاهرة الإرهاب السياسي والعقيدي، ليس بالأمر اليسير، لكونه أصبح أداة ضرورية لتنفيذ أجندات سياسية يعتقد البعض خطأً، أن وجود هذه الظاهرة هو الوسيلة الأنجح للتخلص من ما يعتقده خطراً على وجوده. وقد شاهدنا هذا النمط من الاعتقاد عندما تشكّلت، وبتخطيط غربي، التنظيمات المقاتلة في أفغانستان. وعلى الرغم من النتائج الكارثية على أصحاب هذه الاستراتيجية، تم تكرار السيناريو ذاته في سورية والعراق للأسباب ذاتها. وهكذا تتكرّر المأساة مرةً أخرى ليصبح التطرف والإرهاب جزءًا من النسيج الداخلي لكثير من مجتمعاتنا.
إن الغرب والولايات المتحدة الأميركية خصوصاً، قد أصابه شرر الإرهاب. لهذا السبب تسعى هذه الدول الآن إلى احتوائه لكي لا يتمدد إلى أبعد من الحدود المرسومة له. وقد انعكست هذه السياسة على توجهات دول بلدان الشرق الأوسط المرتبطة استراتيجياً بالمحور الغربي. من هنا جاءت الدعوة لاحتواء الإرهاب متناغمةً مع هذه التحولات العالمية، ومنسجمةً مع المصالح والآليات والوسائل الغربية.
إن تجنيب أوطاننا خطر الإرهاب يتطلب وقفة شجاعة وصادقة لمراجعة استراتيجاتنا، وتحليل أسباب انتشار هذا الخطر. إنه جهد جماعي يعمد إلى صياغة استراتيجية متناسقة تنفذ خططها على أرض الواقع لتصبح عقيدة مجتمع بأكمله. وهذا هو الرقم الأصعب في تجنيب أوطاننا خطر الإرهاب. فهل بتنا واعين لحقيقة هذه المخاطر؟ وهل نملك الجاهزية لتبني استراتيجية شاملة ومستقلة لمعالجة حقيقية لهذا الداء الذي أصاب خلايا مجتمعاتنا فضرب الإنسان في عقله وفكره، وشوّه معتقداته التي من المفترض أن تكون هي الضمانة لسلامته؟
إنها معادلةٌ صعبةٌ تلك التي تحاول خلق توازن بين متطلبات استراتيجية لدول عظمى لها مصالحها التي تصيغ توجهاتها حيال مسألة الإرهاب، وبين مصالح وطنية أصبحت مرهونةً لتلك الاستراتيجية الغربية.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 4497 - الإثنين 29 ديسمبر 2014م الموافق 07 ربيع الاول 1436هـ