من العلوم الحديثة، وإن كانت معروفة منذ زمن بعيد، علم التخطيط الاستراتيجي، الذي يعتمد على ثلاث دعامات رئيسة هي: دراسة الواقع، تحديد الأهداف في ضوء الرؤية، وبناء الآليات اللازمة لتحقيق الأهداف.
وقد أصبح التخطيط الاستراتيجي ضرورة لازمة لضمان تقدم المجتمعات الحديثة، ولضمان استمرارية الانجاز، وقد لفت نظري في السنوات الأخيرة اهتمام دول مجلس التعاون الخليجي في المجال العمراني، أو في مجال البنية الأساسية. حيث نجد أن هناك التخطيط الاستراتيجي للتعليم أو الصحة أو التطور الصناعي أو التخطيط الاستراتيجي للقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية.
وكما هو معروف فإن التخطيط الاستراتيجي يعتمد الدمج بين نوعين من العلوم، وهي علوم الإدارة والموارد البشرية والتنمية الاقتصادية وبين العلوم العسكرية وخصوصاً علوم بناء القوة الشاملة للدولة. ومصطلح «الاستراتيجي» هو أساساً مصطلح عسكري، تم الاستفادة به في القطاعات المدنية العديدة. وتحقيق تخطيط استراتيجي يستلزم إجراء مسح شامل للأوضاع الراهنة في المجال الذي يراد تخطيطه، ثم تحديد الرؤية (Vision) للتطور والتطوير، واختيار الآليات، وتوفير الموارد البشرية والمادية اللازمة، ووضع الخطط المرحلية، وأخيراً وليس آخر متابعة مراحل التنفيذ بصورة مستمرة، بما يؤدّي إلى تحقيق الأهداف.
ويتم ذلك خلال فترات زمنية في إطار تراكمي (Accumulative)، وعملية المتابعة هذه لها قواعدها، إذ تستلزم معرفة ما تحقق وما لم يتحقق، وأسباب القصور أو ضعف الانجاز، وكيفية معالجة ذلك، ودراسة البيئة الداخلية والخارجية المحيطة بالمجتمع المراد تخطيطه. ومن أهم النظريات النظرية المعروفة باسم (SWOT)، أي دراسة جوانب القوة والضعف والفرص والتحديات.
من هنا تبرز أهمية الملتقى الخليجي الثالث للتخطيط الاستراتيجي، الذي عقدته الجمعية البحرينية للتخطيط الاستراتيجي وشارك فيه متخصصون من مجالات عديدة، وضم خبراء من البحرين وبعض دول الخليج الأخرى كالسعودية والكويت والإمارات. واستهدف المؤتمر ليس تقديم تحليل نظري لمفهوم التخطيط الاستراتيجي، وإنما السعي لدراسة التطبيق في بناء الخطة الوطنية والإقليمية، وهذا ما ضاعف من أهمية هذا الملتقى الثالث في نظرته الإستراتيجية للعمل الخليجي في إطار تكاملي. ونسوق في هذا المقال عدداً من الملاحظات ذات الطبيعة العامة، عن أعمال الملتقى الذي استمر ثلاثة أيام.
الأولى: التفاعل الكبير بين «الجمعية البحرينية للتخطيط الاستراتيجي» وبين مراكز الأبحاث الخليجية، ومع المؤسسات الإعلامية سواء الصحف أو الفضائيات، وهو ما انعكس في المشاركة بالحضور أو التحدث أو التغطية الإعلامية.
الثانية: الإعداد الجيد للمتحدثين ولمديري الجلسات، فقد أتيح لكل متحدث أن يطرح أفكاره في إطار زمني محدد (15-20 دقيقة)، دون أن يقاطعه مدير أو مديرة الجلسة، حتى يستطيع تقديم أفكاره بصورة متكاملة وواضحة، وبذلك تجنب الملتقى الطريقة المتبعة في ندوات أخرى حيث يقوم مدير الجلسة بإدارتها بطريقة دردشة الفضائيات، أو منتديات الحوار التفاعلي البسيط التي لا تتيح للمتحدث سوى دقيقة أو دقيقتين، ثم ينتقل مدير الجلسة لمتحدّث آخر، وهكذا. وهو أسلوب غير علمي وغير منتج وغير مفيد، ليس فقط للحضور بل وأيضاً للمتحدثين الذين لا يستطيع أي منهم أن يعرض أفكاره بصورة سليمة.
الثالثة: أن النخبة التي قدمت الملتقى أو إدارة جلساته ضمت الرجال والنساء، والشباب والشيوخ، والمدنيين والعسكريين، وهو ما عكس تفاعلاً ومشاركة أكثر إيجابية وفائدة، ومن ثم عبر عن مختلف قطاعات المجتمع وعن طوائفه أيضاً.
الرابعة: كانت المحاور الرئيسية لجلسات الملتقى هي دور الحكومات في وضع الخطط الإقليمية؛ دور مراكز الأبحاث في تعزيز الخطط الإقليمية؛ دور الأفراد في دعم الخطط الإقليمية؛ مجالات التخطيط الاستراتيجي الخليجي وخصوصاً المجال الاقتصادي، وما تحقق فيه وما لم يتحقق، وكيفية التغلب على العقبات؛ والمجال العسكري والأمني بين الواقع والمأمول؛ ومرئيات المؤتمر للاتحاد الخليجي المرتقب والذي أطلق مبادرته خادم الحرمين الشريفين في القمة التشاورية في الرياض (2011).
الخامسة: مع كل التقدير لجميع المتحدثين والمشاركين، فإنه مما لفت نظري النشاط الجمّ لأمين عام الملتقى فهد الشهابي الذي كان بمثابة ضابط إيقاع الجلسات، يراقب ويوجه ويحسم المواقف عن كثب، كما كانت رئيسة الجمعية البحرينية للتخطيط الاستراتيجي هالة صليبيخ حريصةً على المتابعة الدقيقة لأعمال الملتقى، وكلاهما كان متواجداً طوال الوقت أثناء الجلسات، ويحرص على تذليل أية عقبات، كما يحرص على بدء الجلسات وانتهائها في المواعيد المحدّدة في البرامج. وهذا الانضباط دليل على الدقة لان إدارة الوقت من ضرورات التقدم، بالطبع كان بعض المتدخلين يتجاوز الوقت قليلاً، ولكن إدارة الجلسات كانت بوجه عام حازمة وحاسمة، وساندها المنظمون، وهذا يقدّم لنا درساً مهماً في ضرورة الانضباط من قبل المشاركين أو المتحدثين، فلا يجب أن يتصور صاحب بحث أو ورقة بحثية أو سؤال أنه الوحيد في القاعة، أو أنه المتحدث الوحيد المهم ومن ثم فعليه أن يراعي حقوق الآخرين من متحدثين أو مشاركين. وهذا هو السلوك الحضاري السليم، فلا يوجد موضوع يصعب اختصاره أو ضبط الحديث عنه في ربع ساعة أو ثلث ساعة على الأكثر، وهذا ما هو متبع في المؤتمرات والاجتماعات الدولية بما في ذلك مؤتمرات بالغة الأهمية تعالج قضايا معقدة بما فيها تلك التي يتحدث فيها قادة الدول. وحقا قال العرب في أمثالهم وحكمهم «خير الكلام ما قل ودل».
ولقد سعدت بحضور المؤتمر، وأنا أكثر سعادةً لأنني وجدت في المؤتمر تنوعاً فكرياً، وهذا مهم لأن الحوار المثمر يأتي من تعدد بل واختلاف وجهات النظر خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ويمكن القول أن المشاركين أثاروا في النقاش ثلاث قضايا مهمة:
الأولى: دور مراكز الأبحاث وهل هو إعطاء التبرير للقرارات التي يصدرها المسئولون أم تقديم سيناريوهات وبدائل للقرارات، وإظهار ما تنطوي عليه بعض القرارات من قصور. وأنا هنا أميل للرأي القائل بالتعدد والتنوع، واستشهد بحكمة هندية أصبحت شبه عالمية وهي مقولة «الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة»، وأطروحة أخرى عندما شاركت في أحد المؤتمرات الدولية في نيودلهي، وكان رئيس المؤتمر من الهند فقال في بداية كلمته إنه يتطلع لأن يقدم المشاركون آراء مختلفة، حتى يمكن إثراء المداولات، ولا يجب أن يتردد أي شخص بدافع المجاملة لأن هذا يجعل المؤتمر بلا جدوى ويتعرض منظموه للمساءلة، خصوصاً إذا أشاد المجتمعون بالمنظمين ولم يقدّموا أطروحات متنوعة وآراء متعددة وبدائل مختلفة للتعامل مع القضية المطروحة.
الثانية: قضية العمالة الوافدة حيث دار نقاش حاد بين جدواها وضرورتها، وبين مخاطرها وأضرارها، وطُرحت وجهتا النظر الاقتصادية في أهمية العمالة الوافدة للتنمية في دول الخليج المحدودة السكان، وأن القرار كان الاختيار بين سرعة معدل النمو وتحقيق نهضة سريعة مع الاعتماد على العمالة الوافدة، وبين نمو بطئ دون الاعتماد على العمالة الوافدة. وقد دفعت الطموحات دول الخليج للأخذ بالاختيار الأول، ولكل من وجهتي النظر احترامها. ولكن أيضاً من الضروري التفكير بأكثر من بديل، وليس فقط الاقتصار على بديلين، فالبديل الثالث مثلاً الحرص على الحفاظ على هوية الوطن والمجتمع الثقافية والسياسية بدمج العمالة الوافدة في المجتمع وإعطائها بعض الحقوق والامتيازات لضمان الولاء الوطني والاندماج الثقافي، وليس الحفاظ على العمالة الوافدة، فيما يشبه الجيتو Ghetto أو العمل على استغلال العمالة الوافدة بأجور منخفضة ومساكن رديئة، وحرمانها من أبسط حقوق الإنسان بدعوى أنها تعيش في مثل ذلك في بلادها الأصلية، فهذه أطروحة غير إنسانية وتتعارض مع شيم العروبة وقيم الإسلام، كما تتناقض مع حقوق الإنسان التي هي موضع اهتمام عالمي وخصوصاً حقوق العمالة الوافدة. فضلاً عن أن العمالة الوافدة جاءت مغتربة مدفوعة بطموحات السعي لتحسين أوضاعها ولو لم تحقق ذلك فلا دافع لها للبقاء في بلاد الغربة.
الثالثة: النقاش حول المفاهيم الأمنية والعسكرية والوحدة الاقتصادية الخليجية، وهنا أيضاً نجد أنه من الضروري على المختصين ومراكز الأبحاث والمثقفين الإحساس بروح المسئولية الوطنية والإقليمية بالدفع نحو الوحدة أو الاتحاد، أسوةً بما يحدث في دول العالم، وخصوصاً نموذج الاتحاد الأوروبي، وإقناع المسئولين بالتنازل عن بعض جوانب السيادة المطلقة لدولهم أو لسلطاتهم، سعياً نحو المصالح المشتركة وليس فعل العكس وإبداء ما يمكن أن يوصف بالتحزب أو الانحياز الوطني بدافع العصبية أو النظرة الضيقة. ولذا فإن تنمية روح المسئولية الخليجية المشتركة تعد ضرورةً للانتقال بالتخطيط الاستراتيجي من الإطار الوطني إلى الإطار الخليجي المشترك.
وختاماً أتمنى أن تكون مختلف المنتديات الفكرية على نمط ملتقى التخطيط الاستراتيجي الخليجي، مع الإقرار بأن لكل منتدى أو مؤتمر ظروفه وطبيعته، ولكن هنا قواسم مشتركة تتعلق بالتنظيم والإدارة والوقت، لأن هذا من سمات الإعداد الجيد، ومؤشر على أن بلادنا وشعوبنا تتقدم وتعرف قيمة الوقت وحقوق الآخرين، وتبتعد عن الأنانية أو الأطروحات التي تستهدف المظهر الشكلي (Show)، فهذا أحياناً آفةٌ من آفات المثقفين أن يتصور كل منهم أنه ملك ناصية الحكمة، وأن غيره لا يعرف عنها شيئاً.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 4494 - الجمعة 26 ديسمبر 2014م الموافق 05 ربيع الاول 1436هـ