أكسيلكايسر - المدير التنفيذي لمؤسسة التقدم (مركز أبحاث في التشيلي) - ينشر بالتعاون مع موقع منبر الحر
كل الثورات، وأعني بالثورة تلك الجهود الواهمة التي تسعى إلى إعادة تصميم النظام الاجتماعي والاقتصادي بأكمله من القمة إلى القاعدة، أدت إلى سفك الدماء والبؤس والاستبداد. ولا يكاد التاريخ يرينا أي مثال يشذ عن هذه القاعدة إلا في ما يخص الثورة الأميركية التي جرى الاحتفال بذكراها الثامنة والثلاثين بعد المئتين في الرابع من يوليو هذا العام.
فبينما أدت الثورة الفرنسية، وهي أول ممارسة مساواتية-عقلانية في العصر الحديث، إلى (حقبة الرعب) وكانت إلى حد بعيد مسئولة عن التمهيد للثورات الماركسية، سواء كان ذلك على صعيد الشكل أو المضمون، فقد أنتجت الثورة الأميركية أول ديمقراطية في العصر الحديث وتمخضت عن مجتمع لم تشهد له الإنسانية مثيلاً في الحرية والازدهار.
وكما لاحظ اللورد آكتون لاحقاً، فإن أوروبا بدت عاجزة عن احتضان الحرية، وكان على الحرية أن تبحث عن أرض خصبة في أميركا لتغزو العالم انطلاقاً منها؛ وهنا يبرز سؤال جوهري:لماذا لم تنتهج الثورة الأميركية مسار الثورات الأخرى وتتمخض خلافاً لها عن مجتمع حر على الصعيدين السياسي والاقتصادي؟
يتمثل الجواب في أن استقلال أميركا لم يكن نتيجة لعمل ثوري في الحقيقة، فالأميركيون، وخلافاً للفرنسيين والسوفييتيين، لم يحاولوا قط أن يؤسسوا لنظام يبدأ من الصفر، ولم يثقوا مطلقاً بأي خطط للهندسة الاجتماعية يرسمها المفكرون.
فعندما ثار سكان المستوطنات على ملك بريطانيا فعلوا ذلك بشكل عقلاني من خلال اتهامه بانتهاك المؤسسات والمبادئ الأكثر جوهرية في التقليد البريطاني، ومن بينها:التشديد على الحق في التملك، والالتزام بالإجراءات القانونية المرعية، والتمثيل السياسي.
لقد قام أوائل سكان المستوطنات، ومنذ وصولهم إلى أميركا، بتطبيق مبدأ (حكم القانون)ومبادئ السيادة الشعبية كأساسين للنظام السياسي، ولهذا كانت الثورة الأميركية صراعاً للحفاظ على مؤسسات قائمة من قبل، ولم تكن صراعاً لتهديم هذه المؤسسات.
وعلى هذا الأساس فإن السياسي البريطاني إدموند بيرك الذي شن هجوماً لاذعاً ضد الثورة الفرنسية ومحاولتها بناء نظام جديد كلياً من الأعلى كان يسوق الأعذار للثورة الأميركية من خلال الإشارة إلى أن سكان المستوطنات «لم يكونوا مخلصين للحرية وحسب، وإنما كانوا أيضاً مخلصين للحرية وفقاً للأفكار البريطانية، وعلى أساس المبادئ البريطانية».
كما إن جون آدامز، الرئيس الثاني للولايات المتحدة الأميركية، وهو ربما يحتل المرتبة الأولى في انتشار أعماله من بين الآباء المؤسسين، وصل إلى حد القول بأن الثورة الفرنسية، بما فيها من مساواتية وعقلانية، لم تمتلك أي «مبدأ مشترك» مع الثورة الأميركية، وبأن كل الدساتير التي أنتجتها الثورة الفرنسية يمكن اعتبارها «حماقات». وهو عامل أساسي طالما كان يميز الليبراليين الكلاسيكيين عن الاشتراكيين، فالليبراليون الكلاسيكيون في التقليد الأنغلوساكسوني يعتقدون بأن التقدم يحصل كنتيجة لعملية تطور طويلة ومعقدة تنقاد بتأثير قوى تلقائية تتطور من داخل المجتمع.فالمؤسسات المختلفة التي بني عليها المجتمع، كاللغة والملكية والأسرة والنقود والسوق والكثير غيرها، لم «يخترعها» أحد العقول الذكية، وإنما انبثقت بشكل تدريجي عبر الملايين من الأفعال البشرية دون أي توجيه من سلطة بعينها.
ولهذا السبب ينظر الليبراليون الكلاسيكيون إلى الحرية باعتبارها منبع التقدم، أما الاشتراكيون، ومن يدعون بالليبراليين التقدميين، فيميلون إلى الاعتقاد بأن التقدم يمكن تصميمه من الأعلى وبأن كل ما يحتاجه ترقي المجتمع هو نخبة سياسية وفكرية متنورة تسن قوانين محددة لتوجيه حياة المواطنين، مما يجعلها تنظر إلى الدولة باعتبارها حلا لكل المشكلات.
إن الليبرالية التي أنجبت الديمقراطية والنجاح الاقتصادي في أميركا تعتمد على إبداع الأشخاص العاديين وكفاءة المجتمع المدني في توفير العناية لمن يحتاج إليها. والنقطة الأخيرة تتمتع بأهمية مصيرية، فالأمر الذي أثار انتباه المفكر الفرنسي أليكسي دوتوكفيل أكثر من غيره أثناء زيارته للولايات المتحدة في القرن التاسع عشر كان عدد الجمعيات المدنية الطوعية التي كانت تمتد في جميع أنحاء البلاد لتلبية احتياجات المجتمع، حيث لاحظ دوتوكفيل فرقاً شاسعاً في هذا المجال بين الولايات المتحدة وبين فرنسا التي كانت الدولة فيها مسئولة عن كل شيء.
كما اشتكى مفكر فرنسي آخر، وهو الاقتصادي فريدريك باستيا، من أن الفرنسيين كانوا ينتظرون من الدولة أن تقدم لهم «كل ما يمكن تخيله من المنافع البشرية»، بينما لم يكن الأميركيون ينتظرون أي شيء من أي أحد سوى أنفسهم. إذا أخذنا كل المؤشرات الكمية بالحسبان، فيمكن القول بأن الشعب الأميركي لا يزال حتى يومنا هذا في صدارة شعوب العالم على صعيد التوحد والعمل الخيري.
إن التضامن العظيم الذي يسود الولايات المتحدة يترابط مع فهم الشعب الأميركي للحرية بأنها تعني غياب تدخل أي طرف ثالث في حياة الآخرين، وهذا الفهم يجعل المرء حراً ما دام غير معرض لإرادة الآخرين حتى عندما تكون موارده محدودة؛ فعندما يكون المرء متسيداً لمصيره الخاص به يجعله ذلك مسئولاً عن حياته، كما يجعله مسئولاً، بالمعنى الأخوي، عن المستوى المعيشي لجيرانه الذين يعانون من المحن.
وعلى رغم أن توسع دولة الرعاية الاجتماعية أدى، ولا زال، إلى تدمير التضامن في أميركا، كما لاحظ نيل فيرغوسون، فإن الأميركي يساعد الآخرين إذا رآهم في حاجة إلى المساعدة، وهو لا يتجنب مسئوليته الاجتماعية من خلال الزعم بأن السياسيين والمسئولين الحكوميين يجب عليهم حل المشكلات الاجتماعية، فالتضامن تفهمه التقاليد الأميركية على أنه قضية من قضايا المسئولية الشخصية، وبأنه واجب أخلاقي يربط المرء بجاره، وليس مجرد عذر لتوسيع سلطة الدولة.
ومن السهل علينا أن نلاحظ بأن هذه الفلسفة في تناول المسئولية الشخصية تتمخض عن محدودية الدولة، وليس هنالك أبلغ في التعبير عن روح الليبرتارية الأميركية من توماس جيفرسون، الرئيس الأميركي الثالث، حين أعلن في خطاب تسلمه منصب الرئاسة للمرة الأولى: «ما الذي يجب أن نفعله أيضاً لنجعل من الشعب الأميركي شعباً سعيداً مزدهراً؟ هنالك أمر آخر تبقى علينا أن نفعله أيها المواطنون، وهو: حكومة تتمتع بالحكمة والتدبير، تعمل على الحيلولة دون تسبب البعض بالأذى للبعض الآخر، وتتركهم أحراراً في إدارة مساعيهم في مجالات العمل والتطوير، ولا تسلب العامل خبزه الذي اكتسبه بعرق جبينه».
عاشت «ثورة» جيفرسون ورفاقه لأن مُثُلهم هي الطريق الوحيد لإنقاذ أميركا الجنوبية التي دمرها الوهم العقلاني الذي يدعي بأن أصل التقدم والتحسن الاجتماعي يتمثل في السلطة السياسية والتخطيط الدولتي، وليس في الحرية الفردية والتضامن التلقائي للمجتمع المدني.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 4489 - الأحد 21 ديسمبر 2014م الموافق 29 صفر 1436هـ