بات بعض العابرين للحدود «وطنيين»، ضمن اشتراطات تفرضها طبيعة المراحل، وشروط لها من الصُنَّاع كُثُر. بعض العابرين للحدود، الذين لا يؤمنون بالولاءات حتى لأوطانهم التي خلَّفوها وراء ظهورهم؛ حيث الولاء لمن يدفع أكثر؛ بدليل بورصات البيع المفتوحة على الأفق، وأحياناً بعقود قصيرة الأجل وطويلها، إلى أن يُمنحوا هبة «الانتماء»، ولذلك أثمانه المستحقة على آخرين، وبالنسبة إليهم هو ثمنٌ بخسٌ مهما علا، فليس مثل شراء الأوطان، ضِعَة وانعدام شرف، وليس لشاهده في الرخيص شبيهاً.
يتذمّر التجّار الوطنيون الصغار والكبار من الغول والشرَه الذي تمثله الشركات العالمية العابرة للقارات والحدود، بما يتوافر لها من أولويات اختيارها، ولذلك ثمنه، المعلوم منه والمجهول.
يتذمَّر العمّال في أوطانهم من موجات تجتاح حدودهم بفعل العمالة الرخيصة التي تحضّرهم للتقاعد المبكّر أو حتى الاستغناء عن الخدمات؛ وفي كثير من الأحيان، تمتلئ بهم قوائم البطالة.
يتذمّر الفقراء حين تلفظهم حتى أرصفة بلدانهم، ولا يجدون غير الحسرة والغصَّة مأوى لهم إلى أن يأخذ الله أمانته.
يتذمّر الشعراء والكتَّاب والروائيون والرسَّامون والمصوّرون الفوتوغرافيون، ومن يدخل في تصنيف التعساء أولئك، من مهرجانات وجوائز لا مكان لهم فيها من الإعراب، لا من حيث «الرفع» طبعاً، إذ هم في محل «جرٍّ» مرةً، وفي محل «نصْب» عليهم مرةً ثانية، و»جزْم» باليأس من تحديد أمكنة لهم، وسط الكرم اللامحدود الذي يطول البشر، ويتجاهلهم. وكثيراً ما يكونون خارج الصورة والمشهد بفعل هوَس بـ «عولمة» الثقافة هذه المرة، من دون أن تقدِّم وجوهها ورموزها والفاعلين في حركتها؛ بل استجلاب واستكتاب بعض أسماء كثيراً ما تمارس عمرها الافتراضي في بلادها؛ لتقدَّم لنا باعتبارها النماذج الجديرة بالاحتفاء، خوفاً من انقراضها، وحفاظاً على نماذج من العبقرية البشرية المتبقية كما يراها أولئك من زواياهم، والخوف كل الخوف من تلك الزوايا، وتلك الرؤية التي لا رؤية فيها!
يتذمّر المتسوِّلون في بلادهم، أولئك الذين وُضِعوا في مهبّ إراقة ماء الوجه بفعل أكثر من سبب، أبسطها مزاحمة متسوّلين تحت أكثر من عنوان ومسمّى في بلدانهم، مرةً تحت مسمّى كتّاب أعمدة، ومرةً تحت مسمّى «مستثمرين»، ومرةً تحت مسمّى «حرّاس للعقيدة»، ولو كانوا لا يعرفون الجهة التي من المفترض أن يولُّوا وجوههم شطرها ولو مرةً واحدةً في اليوم، ولن نقول خمْساً! ومرة تحت مسمّى «خبراء في الإعلام»، بينما هم في حقيقة الأمر، خبراء فتن وكذب ودجل.
وأحياناً، لا يخجل بعض العابرين للحدود من التذمّر من أهل الأرض. يصلون إلى درجة القناعة بأن الأرض تشكّلت وتكوّنت واهتزت وربَتْ حين تشرّفت بهم. كأنها تنتظرهم طوال قرون كي يكتبوا الفصل المنسيَّ من أهميتها على الخريطة، ومركزها في التاريخ، والمستقبل الذين يتوهَّمون أنهم هنا لإعادة صوغه، وتحديد ملامحه ومساراته.
يتذمّر الموهوبون والتنويريون من أهل الأرض حين يرون الظلام وكائناته، ممن لفظتهم ديارهم والأرض، وهم في العميق من مفاصل المكان، ولا متْر مكان لأهل الأرض، وحين يرون الغرباء على المعرفة وفي العمق من التيه، يرسمون ويحدِّدون الخرائط والجهات، وحين يرون الضباع تتحدَّث عن «إكرام الميِّت دفنه»!
يتذمّر من هم نبض الأرض، حين تضيق بهم السبل في أوطانهم؛ فيما تتسع لكل الغرباء والطارئين على ترابها وسمائها وما تبقى من بحرها.
ليس ضرباً من الهذيان كل ذلك. تلك حقيقة بات كثيرون يرون الشاهرَ من الوقاحة فيها، والواضح من الاسترزاق في شواهدها، والتمادي في المزايدة في تعدُّد صورها؛ والتماهي مع الوهم في تكرار نماذجه.
كل من يتورط في ذلك. في تفاصيل مثل تلك، يصبح جزءاً لا يتجزأ من الكارثة، حين يصل إلى مرحلة الشعور بضرورة استيراد وطنيين يقومون بالعبء. عبء تنظيم الحياة، والتحّكم في مفاصلها. وطنيون لا علاقة لهم بالمكان، ولم يتجشّموا عناء قطع آلاف الأميال طمعاً في رضا الله وأهل الأرض والقيّمين على شئون بشرها. وطنيون بحسب العملة الصعبة التي يجدون فيها سماءَ وأرضَ وجبالَ وشمسَ وقمرَ وأنهارَ بلدانهم، والفرص التي يتوهَّمون أنهم أهل لها وصنّاعها، وإن كانوا فاشلين، وعلى هامش القيمة والمعنى والحياة؛ لأنهم لم يبذلوا ما يؤهِّلهم لأن يكونوا في متن تلك الحياة، وفي اللبّ منها ومن حركتها.
تلك هي أوطانهم أصبحت، ولن يعني كثير حزنٍ وضجر لو انقطعوا عنها ذات ظروف، ولن يعني الأرض نفسها، لأن لا شيء يمكن رؤيته في ما يمكن أن يدل عليهم؛ لأنهم ليسوا من طينة الأرض. ومن لم يكن من طينة الأرض فلن يقبله ماء التشكّل!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4489 - الأحد 21 ديسمبر 2014م الموافق 29 صفر 1436هـ
مهازل الزمن في بلد يحكمه منطق عكس عكاس
كما قال الشاعر عن اهل بيت النبي (أرى فيئهم في غيرهم متقسما. وأيديهم من فيئهم صفرات) هذا حال ابناء الوطن اصبحوا يعاملون أسوأ من معاملة الاجانب بينما الاجانب يتشدّقون بالوطنية من اجل المال ولو شحت عليهم الأيدي لتركوا البلد وهربوا كما هرب الآخرون
عنوان جميل
من يقبل لوطنه بهكذا حال استيراد بشر لصناعة مواطنين موالين له لهم لا يهم واستبدال شعبه بشعب اخر لا يستحق الاحترام ووجب مقاومته بكل الأساليب السلمية وغيرها فليست البلد ملك افراد ليتلاعبون فيها في اي مكان في العالم