وسائل التواصل الاجتماعي فكرة ملهمة، دخلت عالمنا من غير استئذان، وهو عالم افتراضي ذبنا فيه بإرادتنا، وفرض علينا في الوقت ذاته، فالاتصال هو الحياة، والحياة اتصال، لكن ينقلب وضعنا بأن تأخذ جل أوقاتنا تمضيةً واهتماماً، هي مدعاةٌ للنظر والتأمل، فهل ما نمارسه تواصل أم لهو؟
اللهو كما عرّفه علماء اللغة، هو ما يشغلك عمّا يهمك، وكثيراً ما نهى القرآن الكريم عن لهو الحديث، بقوله تعالى «ومِن الناسِ مَنْ يشتري لهْوَ الحديثِ لِيُضِلَّ عن سبيل اللهِ بغيرِ عِلْم» (لقمان، 6). وجاء في المجمع لابن الكلبي، أن الآية نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم ويحدث بها قريشاً، ويقول لهم: إن محمداً يحدثكم بحديث عاد وثمود وأنا أحدّثكم بحديث رستم وإسفنديار وأخبار الأكاسرة، فيستمعون حديثه.
لكن غالبية المفسرين يروون أن كلمة يشتري ليس هي المعنى الحقيقي المتداول العرفي، أي: الإشتراء، إنما جاءت كنايةً عن مطلق التعاطي قراءةً أو كتابةً أو تداولاً، وقيل إنها تعني الأخذ والتسلط، واللهو ليس كما يفهمه الكثير من الناس أنه يختص بالمحرمات، بل يتعدى إلى الإفراط في التعامل مع النعم نفسها، لقوله تعالى «أَلهاكُمُ التكاثُر. حتّى زُرْتُمُ المقابرَ» (التكاثر،1 و2). فاللهو هنا هو الانشغال بالمكاثرة والتكاثر والتباري في كثرة المال والعز، فيتجاوز اهتمامنا بها الحد المطلوب، فتصدُّنا عن الهدف الأساسي من حياتنا، لذا ربما نعيش في حالة لهو من حيث لا ندري.
اليوم تكالبت علينا وسائل الاتصال الاجتماعي بشكل مهول وواسع، فالاتصال في حد ذاته هو عملية إنسانية مثمرة، مرتبطة بوجود الإنسان في المجتمع، وهي وسيلة لنقل المعلومات والأفكار والأحاسيس من شخص إلى آخر يتأثر به، وبالتالي فهي عملية تفاعلية مستمرة.
والاتصال عملية ديناميكية تبادلية قائمة على التواصل بين طرفين بهدف التأثير والتأثر من تبادل المعلومات والأفكار والاتجاهات. هو عالم افتراضي فيه الكثير من الإيجابيات، لذا أضحت فيه الفرص متاحةً للتقدم لشغل الوظائف عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أظهرت الأبحاث التي أجرتها إحدى الجامعات الأميركية أن 49 في المئة من شركات التوظيف باتت تعتمد على شبكات التواصل الاجتماعي، فضلاً عن أن 73 في المئة ممن تتراوح أعمارهم بين 18-34 قد حصلوا على وظائفهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي حلّت في المرتبة الثانية.
لكن ما يدفع لأن تصبح هذه الوسائل وهذا العالم هدراً للوقت ومضيعةً للجهد وبالتالي تدخل في عداد اللهو، من يمضي ساعات لقراءة ومتابعة أخبار الناس، أو الدخول في ساحة نقاشات للهجوم وبث السموم، أو مجرد إثارة وإضاعة للوقت والتسلية، أليس ذلك لهواً واشتغالاً به؟ فمن يشتغل بلهو الحديث يتحوّل إلى شخصية فارغة غير طموحة، يشغل يومه بلا فائدة، فيبتعد عن الأشياء المهمة ويتحوّل إلى شخصية غير مسئولة، لأنها تعبّر عن حالة اللعب وعدم الجدية. وهي حالة تساير أهواءنا، وعندما تصبح عادةً مجتمعية، يصبح معها المجتمع مجتمعاً غير جادٍ في تغيير نفسه إلا مادياً، وبالتالي يكون مجتمعاً يعيش اللهو واللعب، ومن يعيش اللعب لا يمتلك قيمة الوقت الذي يعيشه، فينقضي عمره في لهوه ولعبه، لأن ساعته ليس لها قيمة، والأصعب من ذلك أنه يظن أن اللهو فقط في اللعب المحرّم ولا يدري أن اللهو ربما يكون في نمط حياته، لذا تراه دائم الإحساس بأنه غير مقصر، يشعر بالعناء بأقل جهد لأنه متعوّدٌ على الكسل، وليس لديه مدلول للجهد البشري، لأن قلبه مشغولٌ بما لا يجب أن ينشغل به، فالقلب لاهٍ بطموحاته الدنيوية، فهل يمتلك الجدية؟
الإنسان لوحده يمكن أن يصنع المعجزات، فالرسول (ص) فردٌ غيّر أمة كانت تقبع في صحراء الفقر والجهل والظلام إلى خير أمةٍ، ولم تنفع قوة قريش التي ملأت الأرض ضجيجاً في أن تؤلف أحزاباً قلعت مع هبوب ريح أن تصده، وكثيرة هي الشخصيات التاريخية التي غيّرت لوحدها وجه التاريخ، فلا يكون همنا الاستئناس بوقتنا والجنوح نحو الدعة، فللعمر قيمة يوصي به رسولنا الكريم (ص) أبا ذر الغفاري (رض): «كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك».
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 4483 - الإثنين 15 ديسمبر 2014م الموافق 22 صفر 1436هـ
وين المشكلة
وين المشكلة اذا كانوا الناس منشغلين في "لهو الحديث" اللي "يفرغ شخصيتهم"
من الممكن الانسان يرتاح الى اللي تسميه لهو الحديث ولربما ابدع البعض فيه مثل الشعراء !
رائع
كم نحتاج ان نعود للوراء قليلا الحين لمة الجمعة في بيت العود ماليها مزه الكل لاهي ماحد يدري بخوه ولا اخته اللي ما يشوفهم إلا من جمعة لجمعة ناهيك عن اولادنا واولاد الاخوان والخوات
احسنت
نحتاج الى تسليط الضوء على هكذا امور.. لعل وعسى نستفيق من غفلتنا
مقال رائع
مقال ممتاز و في الصميم و ليتنا نرى في مجتماعتنا العربية الكثير من العقول المستنيرة مثلك