حرصت دائماً على أن تكون حياتي العملية متسقة إلى حدٍّ كبير مع ما أتمسك به من مبادئ. وقد دُعِيتُ قبل أسابيع للتحدث أمام تجمع شبابي في برنامج لنقل الخبرات وتبادلها، فاخترتُ أن يكون حديثي بشأن مشهدين كنتُ مشاركاً رئيسياً في كل منهما.
أما المشهدُ الأول فكان مسرحه مختبر التصنيف والتنوع الحيوي، حيث كنت أمارس عملي في المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد في الإسكندرية. كنت منهمكاً في العمل، فإذا بباب المختبر يُفتح، ويدخل أحد المسئولين في المعهد مُرَحِّباً بأجنبيين دلفا وراءه. عرَّفهما في كلمات سريعة، ثم قدمني لهما. فقال أحدهما بلهجة مصرية: “طبعاً، طبعاً. إحنا عارفينه، واعتمدنا على أبحاثه الممتازة في تصنيف أسماك البحر الأحمر”.
أدركتُ على الفور أنهما إسرائيليان. وكان معهدنا، للأسف، من مراكز الأبحاث المصرية التي رأت أن تتعاون مع الكيان الصهيوني.
قلت في لهجة خالية من أي مودة: “لو كان الأمر بيدي لمنعتها عنكم، ولكنها منشورة ومتاحة للجميع”.
فردّ ذو اللهجة المصرية: “ليه كده يا صديقي؟”.
أجبت في هدوء شديد: “لستُ صديقك، ولن أكون”.
تبادل الإسرائيليان النظرات مع المسئول المرافق لهما، الذي حاول تلطيف وقع كلماتي عليهما، فعاجلتُهما بقولي: “ولا يشرفني أن أستقبلكما في مختبري، فأنتما غير مُرحَّب بكما”. فأسرع الثلاثة بمغادرة المختبر. وانتهى الأمر باستدعاء روتيني إلى مقر أمن الدولة.
وأما المشهد الثاني فكان مسرحه جنوب الساحل المصري للبحر الأحمر، حيث كنت فرداً في فريق مهمته إعداد دراسة واقع الحال في موقع لنشاط إحدى شركات البترول العالمية، لتبين تأثير هذا النشاط على البيئة. وقبل أن نصل إلى الموقع، اصطحبنا مسئول العلاقات العامة إلى مقر إعاشة العاملين في الشركة، حيث قوبلنا بحفاوة وكرم بالغين... أو مبالغ فيهما. ثم نقلتنا السيارات المكيفة إلى الموقع الساحلي، حيث فوجئنا بأن رمال الشاطئ نظيفة تماماً، والمياه شفافة. كان الأمر محيراً، فمن غير المعقول أن تكون الصورة مثالية هكذا في موقع حفرت فيه الشركة عدة آبار نفطية بدأ إنتاجها فعلاً. وأعلنتُ عن شكوكي، فأكَّدَ عليها زميلان، وهوَّنَ من شأنها آخران، بينهما رئيس الفريق البحثي الذي كان يتعجل مغادرة الموقع.
ولما أصررتُ على رأيي، وافق على التثبت العملي من أحوال الشاطئ. فأخذنا عينة من المياه الشاطئية، قمنا بفحصها تحت مجهر ميداني بسيط. فوجدناها خالية تماماً من أي أثر لحياة. وغاص أحدنا إلى القاع القريب، وعاد بعينة من الرواسب، معجونة بالنفط الخام.
كان واضحاً أن مادة كيميائية تعمل على تبديد أي تسرب نفطي (dispersing agent) قد ألقيت في المياه الملوثة، فجمَّعتْ طبقة الزيت ونزلت بها إلى القاع. ثم حفرنا في رمال الشاطئ، فوجدنا طبقة متماسكة من النفط تمتد على عمق متر تحت الرمال النظيفة.
وكان مندوب من الشركة يرافقنا، فلما شاهد ما اكتشفناه من محاولات إخفاء الحقيقة، اختفت المودة من تصرفاته، وتركنا من دون أن ينبس بكلمة واحدة.
العدد 4437 - الخميس 30 أكتوبر 2014م الموافق 06 محرم 1436هـ