في المقال السابق أوضحنا بأن عدة محاور رئيسية مطلوب أن يخوض التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة حربه ضد «داعش» العمل على جبهاتها معاً وفي آن واحد: المحور الأول الحملة العسكرية؛ والثاني تجفيف المنابع الفقهية والعقائدية التي تتسم بالغلو والتطرف؛ والرابع تجريد «داعش» من مكامن قوته الإعلامية. وباستثناء المحور الثالث (تجفيف المنابع الفقهية والإيديولوجية المتطرفة) والذي تقع مسئوليته على عاتق الدول العربية الحليفة، وخصوصاً التي انطلق منها وتغذّى ذلك الفكر، فإن بقية المحاور الثلاثة الأخرى تتحمل مسئوليتها جميع دول التحالف الدولي على «داعش»، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
فهذه الأخيرة هي القادرة في المقام الأول على توظيف قدراتها، كدولة عظمى متقدمة ذات نفوذ عالمي ومهيمنة على الأسواق المالية والمصارف الكبرى، توجيه ضربات إلى مصادر التمويل والائتمان الماليين لـ «داعش» بأسماء شتى، وهي القادرة أيضاً على محاصرة وخنق المنابر والأدوات الإعلامية الاتصالية لـ «داعش» بالطرق المناسبة التي ترتئيها، إن لوحدها وإن بالتنسيق مع حلفائها الغربيين والعرب.
وأخيراً فإن الولايات المتحدة هي التي تملك القدرة الحقيقية لجعل الحملة العسكرية الراهنة على «داعش» ذات فعالية حاسمة وقصيرة المدى وليست مترددة و»صبورة» طويلة الأمد.
لا أحد بطبيعة الحال يعلم على وجه الدقة متى ستنتهي الحرب الحالية على «داعش»، ولماذا قدّرت واشنطن انتهاءها بثلاث سنوات، ثم قدّر مؤخراً أحد قادتها العسكريين تحرير الموصل خلال سنة واحدة؟ كان من الواضح جيداً أن الولايات المتحدة لا تريد خوض حرب برية على «داعش» سواءً في سورية أم العراق.
الولايات المتحدة مازالت تتملكها عقدة تخوف تاريخية من الحروب البرية، وإن اضطرت في احتلالاتها العدوانية خوضها كما حدث في الحربين العالميتين وخلال الحرب الكورية وإبان احتلالها فيتنام التي أذلتها مقاومتها وطردتها شر طريدة، وإبان حربها لتحرير الكويت من الغزو العراقي 1991 ثم حربها ضد الصرب في يوغسلافيا السابقة، مروراً بحربها على العراق لإطاحة صدام 2003، وقبلها حربها لإطاحة حكم طالبان في أفغانستان غداة ضرب القاعدة لبرجي نيويورك ومبنى البنتاجون في سبتمبر 2001.
ولعل أحد الأسباب الموضوعية لعدم اكتراث الولايات المتحدة بعواقب مغامراتها العسكرية في العالم، أنها خاضت جميع حروبها الخارجية فوق أراضي الغير، ولم تخضها قط فوق أراضيها، حيث ظلت على مدى قرن تقريباً في مأمن بكل مدنها وعمرانها وسكانها المدنيين عن الضربات الانتقامية، بدءًا من الحرب العالمية الأولى ومروراً بالحرب الثانية وربما ليس انتهاءً بالحرب الراهنة على «داعش».
وأياً كان الأمر حيال هذا المأمن الزائف من عواقب مجمل تلك الحروب والمغامرات العسكرية للولايات المتحدة، على الأقل فيما يتعلق بارتداداتها السياسية والاقتصادية داخلياً وإن تراكمياً على المدى البعيد، فإنه لا مناص لواشنطن من الإقرار بالتعامل الواقعي مع المعطيات الراهنة إذا ما أرادت حقاً لحربها على «داعش» أن تكون ذات فعالية ملموسة في تعجيل اقتراب الضربة الأخيرة الساحقة:
أولاً: استحالة أن تكون الحملة العسكرية على «داعش» في سورية والعراق دون التنسيق المحكم والتعاون مع حكومتي هذين البلدين، بما في ذلك نشر القوات البرية للتحالف تحت غطاء وسند الشرعية الدولية ممثلة في الأمم المتحدة. وسواءً شاءت الولايات المتحدة أم أبت، فإن كلا النظامين السوري والعراقي يستفيدان موضوعياً من حملة التحالف الدولي العسكرية الراهنة على «داعش»، وعليها أن تضع على الأقل مقاربة «أهون الشرين»، في المقارنة بين خطر «داعش» الداهم راهناً وخطر النظام السوري، ومن ثم تترك خيار المراهنة على إزاحته من الخارج أو المراهنة على ما تسميه بـ «المعارضة المعتدلة»، ممثلةً في «التحالف الحر»، ما لم يكن مسنوداً فعلياً بأوسع قاعدة شعبية تمثل جل ألوان الطيف الديني والسياسي في سورية، وهذا غير متحقق حتى الآن.
ثانياً: إن الولايات المتحدة ينبغي أن تمارس شتى أنواع الضغوط على حليفتها أنقرة، للإنضمام إلى التحالف الدولي وغلق حدودها مع سورية في وجه مختلف الجماعات الإرهابية، ذهاباً أم إياباً، منها وإليها.
ثالثاً: لا مناص لواشنطن من تحمل المسئولية السياسية والأدبية لتسليح الجيش العراقي بالأسلحة الحديثة التي تمكنه من مواجهة خطر «داعش»، فهي التي حلّت نواته الأصلية وأجهزت على أساسياته لكي لا تقوم له قائمة غداة احتلال جيشها للعراق لإسقاط نظام صدام.
رابعاً: وإذا كان إلحاق الهزيمة بـ «داعش»، كما يقر محللون أميركيون، ومنهم معلق «نيويورك تايمز» روس دوثاث، يقتضي إنزال القوات البرية بالتنسيق مع نظام بشار الأسد، فإن عمليات كهذه تقتضي أيضاً التعاون والتنسيق مع كل من موسكو وطهران لتأثيرهما المباشر أو غير المباشر في الأزمة الدولية الراهنة مع «داعش».
وقصارى القول إن الحملة العسكرية الجوية الراهنة التي يشنها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على «داعش» لن تحسم المعركة بسرعة وبسهولة ما لم تسندها حرب برية على الأرض، وعلى الإدارة الأميركية أن ترضخ بواقعية لإعادة رسم خريطة تحالفاتها الإقليمية في المنطقة ولو مؤقتاً، فليس لها سوى أن تتجرع شرب السم كما تجرع قبلها قادة دول في حروب كانوا هم فيها الأقوياء، وروّضوا النفس مرحلياً لقبول ما لا يمكن قبوله في سبيل غايات أسمى، والولايات المتحدة مرت بمثل هذه التجارب من التحالفات العسكرية التكتيكية غير الاستراتيجية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية فضلاً عن بعض الحروب الإقليمية.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4421 - الثلثاء 14 أكتوبر 2014م الموافق 20 ذي الحجة 1435هـ