في حديث مع إحدى الباحثات البحرينيات المهتمات بالحركة النسائية في المجتمعات الخليجية والبحرين بشكل أخص، باغتني سؤالها عن بداية الحضور الاجتماعي للمرأة الريفية في البحرين في النصف الأول من القرن العشرين. هل برزت نساء في الريف البحريني في الحياة العامة؟ ما طبيعة الأدوار التي كن يقمن بها بعيداً عن أدوارهن البيتية؟
هذه أمور يسهل الحديث عنها وحولها في النصف الثاني من القرن الماضي، ولكن قبل الخمسينيات تبدو الصورة ليست واضحة كما يجب ويكتنفها غموض كبير.
الحقيقة هناك ظاهرة لا يمكن إغفالها لمن هو مهتم بتاريخ البحرين، وهي ظاهرة النقص الفادح في الدراسات المتعلقة بالمرأة البحرينية، وإذا كانت المرأة المدينية قد حظيت ببعض المحاولات المبكرة والشحيحة في الرصد والمتابعة، فإن شقيقتها الريفية ظلت بعيدة عن دائرة الرصد والتوثيق.
هذا النقص الحاد هو ما دفع باحثة اجتماعية مثل منيرة فخرو عندما أرادت أن تدرس حياة المرأة البحرينية في عشرينيات القرن الماضي، إلى الاستعانة بتجربة سيدتين فقط، الأولى أمها: امرأة بغدادية جاءت إلى البحرين عروساً في منتصف العشرينيات وأنجبت عشرة أبناء وتوفيت في البحرين بعد مجيئها بأكثر من نصف قرن؛ والأخرى امرأة بريطانية هي زوجة المستشار البريطاني، إلى جانب اعتمادها لأغاني الغوص وأغاني (المرادة)، وهي رقصة شعبية جماعية تؤديها النساء في الأعياد وحين رجوع الغواصين من سفرهم الطويل.
وأرى أن هذه ظاهرة تاريخية بامتياز، فالمصادر المحلية الأبعد، همشت دور المرأة تماماً، فلا حضور لها ولا دور، والمدوّنات التاريخية التي اتخذت من مدرسة التراجم وسيلة لتوثيق مظاهر الحياة الاجتماعية اعتماداً على أدوار علماء الدين الذين كانوا الطبقة المثقفة لردح طويل من الزمن، أسدلت ستاراً كثيفاً حول المرأة ودقائق حياتها الاجتماعية وتفاصيل شأنها اليومي.
هكذا مثلاً لن نقف على أي ذكر لنساء في كتاب «لؤلؤة البحرين» أو «أنوار البدرين»، ولا في كتابي محمد علي التاجر، والوحيد الذي تناول بعض النساء بشكل عرضي خجول وباهت الشيخ إبراهيم المبارك (ت 1979) في كتاب «حاضر البحرين»، وهي شهادة، على تواضعها، تمثل شهادة متأخرة جداً.
وأمام هذا النقص الهائل في الشهادات التي تتحدث عن المرأة الريفية في المجتمع البحريني، راح بعض المثقفين البحرينيين يبتدعون نصوصاً روائية لترقيع النقص في ذاكرتنا فيما يخص النساء، هنا تأتي تجربة الروائي حسين المحروس ويتصدّر عمله الجديد «مريم: سيرة الخضاب والنسوة اللواتي ضاعت أسماؤهن»، قائمة هذه الأعمال التي تتحايل على النظرة النمطية حيال النساء وتسجل تاريخاً شفهياً يتجلبب بفن الرواية والقصة لإثبات جدارة موضوعه.
عانت المرأة الريفية، كما الرجل، في النصف الأول من القرن الماضي من شظف العيش، والظروف الاقتصادية الصعبة، إلى جانب شيوع ظاهرة الأمية وانعدام الخدمات الصحية. كان عليهن أن يقضين شهوراً طويلة وحيدات في البيت، يشرفن على تربية الأبناء وينتظرن مجيء الزوج من رحلته في البحث عن اللؤلؤ، وسيلة الرزق الرئيسية مع الزراعة في ذلك الزمان قبل تدفق النفط العام 1932. كما كانت المرأة تمثل قوة عمل مهمة، فزراعة النخل تحتاج إلى تفرغ كامل وعمل دؤوب على مدار السنة، يشترك فيه جميع أعضاء الأسرة من الأطفال والرجال والنساء.
كانت المرأة الريفية مثقلةً بأعباء منزلية تبدأ مع ساعات الفجر الأولى وتنتهي وقد حجب الظلام نور الشمس، لتبدأ يوماً جديداً يشبه اليوم الذي قبله. ومع ذلك وجدت المرأة نشاطاً اجتماعياً يخرجها من دائرة الالتزامات الأسرية ويوفّر لها مساحة من العمل خارج البيت، فقد عرف المجتمع الريفي: النساء الخاضبات، والقابلات، والملاية (النادبة) ومعلمة القرآن، والخيّاطة.
كما برزت المرأة الريفية بشكل أكبر في الشعائر الموسمية الخاصة بشهري محرم وصفر، والذي كانت تزداد فيه مظاهر التكاتف الاجتماعي بين الأهالي، ومن خلال طقوس عاشوراء يمكن فهم الكثير من عادات وتقاليد مجتمع القرية البحرينية وتبين موقع ودور المرأة ضمن هذه الطقوس. وهو موضوعٌ لم يلق الاهتمام الكافي من الباحثين على رغم أهميته التاريخية والاجتماعية البالغة.
ولا يمكن الحديث عن دور المرأة في الريف البحريني دون الإشارة لانبثاق أول جمعية نسائية تبنت قضايا المرأة في القرية، وهي «جمعية فتاة الريف النسائية» التي تأسست في الخامس من فبراير/ شباط 1972 التي اضطرت إلى مزاولة نشاطها الاجتماعي والثقافي ثلاثين عاماً قبل الاعتراف الرسمي بها في يونيو/ حزيران 2001.
وهدفت جمعية فتاة الريف التي جاء تأسيسها في ظروف سياسية واجتماعية بالغة التعقيد، إلى توعية المرأة الريفية بأهمية دورها في العمل الاجتماعي التطوعي، ورفع المستوى الثقافي والاجتماعي والصحي، وتعريف المرأة الريفية بحقوقها القانونية لضمان مشاركتها في التنمية، إضافةً إلى تشجيع المرأة على الجمع بين حقها في العمل وواجباتها الأسرية.
وقد أكدت لي الشقيقتان المؤسِسَتان: حياة ونجاة الموسوي، ابنتا رجل الدين المعروف محمد صالح العدناني (ت 2007) أن البداية كانت محفوفةً بصعوبات جمة، غير أن أصعب العوائق التي اعترضت طريقنا هي الأصوات التي كانت تنطلق من القرية نفسها، ومن رجال الدين الذين ألصقوا بالجمعية وناشطاتها مختلف الاتهامات، وكان أسهلها دمغنا بالشيوعية ومحاربة الدين!
لا أعتقد أنني قدّمت إجابة وافية عن سؤال الأخت الباحثة؛ لكن ما أنا متيقنٌ منه أن المرأة البحرينية في الريف كانت أكثر من أم وزوجة وأخت. لقد كانت «كل ذلك» إلى جانب كونها رائدةً اجتماعيةً بارزةً في العمل التطوعي البسيط الذي كان يتناسب مع أوضاع تلك الفترة الصعبة من حياة البحرينيين.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4413 - الإثنين 06 أكتوبر 2014م الموافق 12 ذي الحجة 1435هـ
مداخلة متميزة
مداخلة متميزة.. فاتني الاشارة الى دراسة هني.. شكرا للمرور
رائع
موضوع رائع ومهم ويستحق الدراسة فعلا ،، شكرا استاذ وسام
شكر لأستاذنا الموقر
أقدم شكروعرفان للأستاذ وسام على مقاله اللامس لوجه الواقع لتهميش إظهار دورالمرأة في البحرين رغم الانفتاح الواسع الذي تعيشه البحرين ، إلا إنه لا يخدم المرأة مجرد حديث يقال و مقالات تتأرجح هنا و هناك ، رغم كثرة الجمعيات النسائية في البلد إلا إنها لم تستطع أن تَُكون شخصيتها المستقلة، ( اقتصر دورها في الشؤون الاجتماعية و الثقافية فقط ) و مازالت تنادي ،،،، و على يدك أستاذنا و أمثالك تجمع الفتات ما بقي( تحياتي : بنت الموسوي)
عن الريفية
في دراستها المهمة عن القرية الشيعية "سار" تقول الأنثروبولوجية الدنماركية "هلِن" أن المرأة كان لها حرية داخل القرية أوسع من المرأة في المدينة والتي كانت حبيست البيت بالعادة.. وكانت تمارس العديد من الأنشطة الإجتماعية في محيطها الأنثوي أسوةً بالرجل.