العدد 4412 - الأحد 05 أكتوبر 2014م الموافق 11 ذي الحجة 1435هـ

عُشَّاق الألقاب الوهمية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في هذا الزمان يعشق كثيرون الألقاب. في الدِّين يُحِب رجاله أعلى المسمَّيات المركَّبة: آياتٌ وحججٌ ومقدَّسون وأكابر، في حين كان الأوَّلون وهم جهابذة العلم يكتفون بألقاب متواضعة: القاضي أبو بكر الباقلاني. الشيخ المفيد، القاضي ابن فرحون المالكي. الإمام بِشْر ابن غانم الخراساني. الحافظ علي الدارقطني. بينما اكتفى آخرون بأسمائهم فقط.

في السياسة، يُحِب رجالها أفخم النعوت: قادة ودهاة ومُخضرَمون وعَرَّابون أو حتى كيسنجريين (تيمناً بـ هنري كيسنجر)! في حين، لم نقرأ ذلك عن أشهر السياسيين كروبرت سيسل وجون لوك وشارل ديغول، وقبلهم نيكولو مكيافيلي أو بنجامين فرانكلين.

أما في الصحافة والكتابة، فحدِّث ولا حَرَج؛ حيث يعشق بعضهم ألمع الألقاب: مفكرون استراتيجيون ومحللون سياسيون أو باحثون في الفلسفة السياسية. وقد خَرَجَت علينا موضة رؤساء المراكز البحثية، والتي بات «البعض» يرى ضرورة أن تُلصَق باسمه.

ولو تتبعنا كل عِلم (وبالتحديد العلوم الإنسانية والمعرفية) لوقفنا على العديد من الألقاب المُجترَّة نتيجة التداول المُبتَذَل، أو المصنوعة عنوةً بهدف تضخيم الذات، وتخطِّي رقاب البشر بغية الجلوس في مقدمة الركب. وهي باعتقادي صورة من صور النقص عند أصحابها، كونهم لا يمتلكون «الواقع» فَيُمَلِّكوا أنفسهم «الحلم»... وشتَّان بين الأمرين.

وحين نُدقّق في السواد الأعظم لأعلى الألقاب وأفخمها وألمعها والتي طُوِّعت لكي يتلبَّس بها نفرٌ من أدعياء العلم لوجدنا أن القضية هي «وظيفية» بامتياز. بمعنى أن هناك قصداً مُبيَّتاً لذلك المسار في توصيف القدرات والمَلَكَات البشرية، لإنتاج قوى وهمية، ورأي عام مُزوَّر، ينظر إلى الأشياء بنظرة مُوجَّهة، فتُقوَّى أطرافٌ وتُضعَّف أخرى بشكل غريب.

في القنوات الفضائية، نرى ذلك الأمر بشكل جَلِي، حيث تتعمَّد بعض القنوات المملوكة لدول أو جماعات أو شركات، أن تُعزِّز صوراً لأشخاص مُحدَّدين وتُمهر أسفل صورهم مُسمَّيات كبيرة لكي تُجلِّل من شخوصهم أمام المشاهدين والمستمعين، فيظهروا أمامهم وكأنهم حقائق إذا ما وُضِعَت في سياق الأحداث كانت نتائجها معروفة سلفاً.

ولو تتبَّع أحدنا ما يتم طرحه في هذه القناة أو تلك، لن يَجِد سوى موظفين، يعملون كلهم خدمة لهدفٍ مُحدَّد لا يُرَى لكنه يتنزَّل بقصد ووعي في وجدان الناس، وهم في ذلك غير قادرين على الخروج عن ذلك المسار. وإذا ما عَلِمنا أن كافة الأشياء من حولنا نسبية لا تمام لها، فهذا يعني أن عدم التشكيك فيما يُطرَح لا ينمّ عن أن هناك هدفاً نبيلاً أبداً.

بالتأكيد، ليست القنوات الفضائية وحدها مَنْ يقوم بمثل هذا السلوك، بل هناك الأنظمة السياسية الحاكمة أيضاً، والتي عادةً ما تقوم بإنتاج نخبة خاصة بها مُسبَغٌ عليها الألقاب الباهرة، وتُعطَى أوقاتاً لا حدَّ لها في الإعلام كي تُشرعِن سياساتها على كافة المستويات، الأمنية والاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية وحتى الدينية، حيث الفتاوى بكل ما فيها من حرمة وإجازة وكراهة واستحباب، وكلها باسم الله تعالى.

في كثير من الأحيان، يُصاب المرء بالغَثَيَان وهو يرى تلك النخب، صاحبة الألقاب الكارتونية، وهي تدافع عن كل شيء، وفي كل مكان وزمان، صحيحه وسقيمه، حرامه وحلاله! هل يُعقَل أن قراراً خاطئاً لم يصدر عن هذا النظام أو ذاك، وعلى مدى عشرات السنين، وفي أحلك الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية؟ هل يستوعب العقل أن كل السياسات المتَّبَعة كانت ولازالت جامعة مانعة لا يدخلها الباطل البَتَّة؟

بل من التفاهة، أن نرى تلك النخب المزيّفة، وهي تدافع عن القرار حين يَصدر، وحين يُناقَش، وحين يُسحَب، وحين يُعدَّل، وحين تُعاد صياغته، وحين يُزكَّى، وحين يُطرَح مرة أخرى للتنفيذ! هل يُصدِّق أحدٌ أن مثل هذه النخب، تستحق ما هي عليه من ألقاب كبيرة، وهي تتقافز على مدار ما يريده الحكم؟ إنه حقاً عِلم مُزوَّر، تحوطه ضمائر خَرِبَة.

أيضاً، هناك تسويق للألقاب المجوَّفة، تقوم به بعض الأحزاب والتيارات السياسية والدينية، حيث تُعلِي من شأن مريديها، وتحط من شأنِ مخالفيها. وقد أفضى كل ذلك الجو الموبوء، إلى دخول عديدين إلى بازار التنافس المجنون على الحظوة والزعامة، بحيث تكوَّنت أمامنا صروح علمية وسياسية وهمية لا قاع لها ولا قوة، فضلاً عن خطورتها.

كما أدى ذلك المشهد إلى أن تفسد نفوس الكثيرين من طلبة العلم وأهل السياسة وأصحاب الأقلام، كونهم انشغلوا «بِجِد» في الحصول على ألقاب ومسميات كبيرة كي تتضخّم ذواتهم، فأصبح البعض منهم يعتقد أن خطبة له بالمايكروفون تعادل مُلْك الرَّيْ، وأن نصاً على قرطاس، يساوي عنده نتاج إسحاق بن سليمان وكتبه الأربعة.

لقد أفضى ذلك لأن يتسرَّب الكِبر إليهم، ويموت التواضع عندهم، فأصبح كثيرون، ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أهل دراية وفضل لا حد له، فانسحب ذلك حتى على سلوكهم وتعاملهم مع الناس والأغيار. وهم بذلك، وقعوا في آفة التحصيل الكبرى، التي تتلِف العلم، وتبدِّل الأخلاق.

ومن المناسب هنا أن نذكر صورةً من صْور التكبّر عند مَن أوتِيَ شيئاً من العلم، ما جاء في الأثر، من أن أحدهم سأل أبا الربيع الغنوي وكان من أفصح الناس وأبلغهم:

مَنْ خير الخلق؟

قال: الناس.

فمَنْ خير الناس؟

قال: العرب.

فمن خير العرب؟

قال: مضر.

فمن خير مضر؟

قال: عشيرة يعصر.

فمن خير يعصر؟

قال: غني.

فمن خير غني؟

قال: المخاطِبُ لك!

ثم سأله السائل: أَيَسُرّك أن تتزوَّج بنت يزيد من المهلَّب؟

قال: لا والله.

قال له: ولكَ ألف دينار؟

قال: لا والله.

فألفي دينار؟

قال: لا والله.

ولك الجنة؟

فأطرق ثم قال: على أن لا تَلِدَ مني.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 4412 - الأحد 05 أكتوبر 2014م الموافق 11 ذي الحجة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 22 | 10:28 ص

      للزائر رقم 18

      الرازي على عظمته أسموه الفخر الرازي وكفى . وابن سينا أسموه الشيخ وكذلك الشيخ الطوسي والشيخ المفيد والفيض الكاشاني والملا صدرا . أما اليوم فالالقاب تعطى بسبب وبغير سبب وحتى ولو كان هناك منزلة علمية فعليهم احترام العلم والناس وعدم التعالي على الناس لان عملهم هو من يصعد بهم الي المعالي لا الالقاب

    • زائر 20 | 9:31 ص

      الى الاخت متمردة نعم

      اكتبي ما شئت ضد الوفاق أو ضد السلطة أو ضد أي أحد..اذا كتبت بما يحلو لك أنت حرة ولكن فرق شاسع بين ما يحلو وما قام عليه الدليل والبرهان واقتضته المصلحة والمنطق السليم..اتمنى انك من الصنف الاخر. بالمناسبة المقال المشار إليه لا اتفق مع كل نتائجه اذ للوفاق اخفاقات في هذا الشأن قد نقلتها شخصيآ لهم مع أني ملتزم بمنهج الوفاق. نقد محبة.

    • زائر 18 | 8:52 ص

      لعدم الافراط والتفريط

      نعم كلام الكاتب جيد ولكن من الاجحاف أن نقول عن البروفسور الذي افنى عمره يا حجي حبيب مثلا أو للكاتب مثل هويدي يا محمد ولمتبحر في العلوم الدينية لحد الاجتهاد شيخ (حاف) ..الخ

    • زائر 17 | 8:45 ص

      لنتفق

      اذا أردنا تطبيق المباديء الاخلاقية في هذا المقال فيجب أن تطبق على جميع البشر دون استثناء..اعيد دون استثناء.. فهل تقدرون عليها أو الميزان على ناس وناس!!

    • زائر 14 | 6:53 ص

      أضيف لك ( نخبة من المدربون)

      لا ننس أيضا، انتشار ظاهرة الدويرات ( تصغير دورة) التدريبية، و كل من حاضر في دويرة أو ورشة ، وصم نفسه بالمدرب الدولي و مستشار التدريب ... إلخ. كيف أصبحوا من نخبة المدربين أو التربويين أو المستشارين الدولين، و هم لم تبلغوا من العمر خمسا و ثلاثين عاما، و أي خبرة هذه التي بسببها أصبحوا نخبا و مستشارين؟؟

    • المتمردة نعم | 5:55 ص

      المتمردة نعم

      استاذي نسيت ان تذكر الصحف فبالامس قرأت مقال لكاتب عمود يمجد ويرفع في جمعية حتى بت اعتقد انها مزارا منسيا دون ان يذكر خطأً او حتى عثرة ارجو من الصحفيين التحلي بالموضوعية وعدم تضخيم وعملقة من ينتمون الى تياراتهم وانا اقصد الجميع ممن يعانون من مرض الشيزوفرينيا وهم الموالون والذين يعانون من مرض التقديسينيا وهم غير الموالين وبالمناسبة مقالك في قمة الروعة

    • زائر 15 المتمردة نعم | 8:30 ص

      الله يعين

      اختي المتمردة، خفي على روحش شوي، ثاني تعليق لمقالين عن مقال امس، نحن مع الديمقراطية لك الحق في مخالفة الوفاق ومخالفة سياستها ، بس حاسبي لنفسك لا تمرضين من القهر

    • المتمردة نعم المتمردة نعم | 8:58 ص

      المتمردة نعم

      اهم شي ما امرض بالتقديسينيا لانها مرض مستعصي وانتم اخبر .ولكن بالمناسبة اكتب ما يحلو لي لا ما يحلو لك ولجماعتك

    • زائر 12 | 5:40 ص

      ولا ننس الائمة أبوحنيفة ومالك والشافعي وبن حنبل والرحالة ابن بطوطة وعالم الاجتماع

      إبن خلدون وغيرهم الكثير الكثير من الجهابذة العلماء الموهوبون ممن سطروا أسماؤهم في كتب التاريخ والعطاء الانساني بدون إضافة القاب ولكن ما نراه اليوم من فوضي الالقاب هو جزء لا يتجزأ من الفوضي العامة التي ضربت أطنابها مجتلف نواحي الحياة حتي اصبح البعض مدمنا عليها وغدت موضة انساق البعض وراءها بجهالة فأصبح الممرض طبيبا والجاهل شيخا بل واصبحت تكتيكا او غاية للوصول الي الهدف، وما نراه من سلوك واقوال تتردد مثل (من أين توكل الكتف) ، (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب) لهو دليل علي وجود خلل في الذهنية العربية

    • زائر 16 زائر 12 | 8:40 ص

      لك أن تراجع

      يا أخي لاصحة لتواضع القدماء وزهدهم في الألقاب، بله عدم تورع بعضهم عن التقرب للسلطان بالكذب على النبي (ص) فأي شيء عندهم اللقب!! أدعوك لمراجعة الكتب القديمة وقراءة ترجمات العلماء بل مقدمات العلماء لكتبهم فسترى العجب العجاب. مثلما عندنا ألقاب كان هناك القاب فخمة لن أذكرها حتى لاتثير حساسية أحد.

    • زائر 11 | 4:44 ص

      التواضع ثم التواضع

      ألقاب مثل دكتور وعلامة والشيخ والعالم هي ألقاب مناسبة ولكن أن يأتي اللقب أضعاف أضعاف حجم الإسم وعلى أنه الأكبر والأعلم ومجدد عصره والفيلسوف وووو فهذا ما لا يقبله عقل . التواضع ثم التواضع يا جماعة

    • زائر 8 | 3:18 ص

      الالقاب

      اعتقد ان البحرانيون يبهرون بالالقاب جدا وهذا ما نراه في اعلانات الخطباء الجدد الوافدون من البلاد الاخرى ولا يثقون بمن هم في بلادهم ولا يقدرونهم على رغم ان من نعتوه خاو مفلس علميا

    • زائر 9 زائر 8 | 3:52 ص

      ليس على الأطلاق

      اهل البحرين لديهم حساسية مفرطة في تقدير الشخصيات فلإن انخدعوا قليلا إلا أنه سرعان ما يرجعون إلى الصواب وذلك أكثر من شعوب أخرى مجاورة تنخدع بالدجالين والمدعين ولا داعي لذكر الأمثلة. فقط أخي الكريم أنصف شعبك لإن النظائر قليلة.

    • زائر 5 | 3:10 ص

      هذه ثقافه

      نحن كعرب يجب علينا الأبتعاد عن العاطفه المفرطه والانسياق الأعمى مع من هب ودب وان نفكر بعيدا عن العواطف وبعقلانيه وتجرد وعلى حقائق حتى نكون رأينا الخاص ويكون موقفنا مبني على ذلك فقط وإلا بقينا كالقطعان نسير

    • زائر 4 | 2:52 ص

      دكتور تكه

      هناك جامعه عربيه منحت دكتوراه في التكه والمهياوه وربما عن قريب في الكوارع والباجله فلاتستغرب اذا رايت هؤلاء يصولون ويجولون في علم السياسه والأقتصاد وربما في الدين ولاتستغرب اذا رايت الألآف يصدقون كلامهم المُنزًل

    • زائر 2 | 2:26 ص

      ملاحظة

      مع أني اتفق معك بنسبة عالية جدآ إلا أنه لايحسن ترك الألقاب الحقيقية ومقارنتك الماضي بالحاضر مبتسرة إلى حد بعيد فليس صحيحآ أن الأوساط العلمية فيما سلف كانت ألقاب بسيطة فلو قرأت ترجمة العلماء لرأيت عجبآ، والان اذا كان اللقب يحمل منزلة علمية دينية ولم يسع له صاحبه وأعطاه استاذه له فما المشكلة؟ مثله مثل دكتور واستاذ دكتور..الخ الا أن نلغي كل الالقاب ونسمي كل الناس بأسمائهم على السواء بدون اي استثناء.

    • زائر 1 | 12:03 ص

      عزيزي نسيت الصحافة واصحف

      مقال جميل ويشمل الصحف ايضا اعتقد انها سياسة باتت تحتصرنا في كل مكان، بوركت

اقرأ ايضاً