تجربة الاسلاميين في السودان بما لها من صيت في ساحة الصراع الفكري والايديولوجي العالمي لم تحظ بالتناول الذي يكشف عن تكوينها الداخلي وعلاقة القاعدة بالقيادة ودقائق الحوادث التي مثلت مفاصل مهمة في تاريخها الطويل. وان التجربة في السودان لها الكثير من المسالب ولذلك فشلت في ان تقيم مشروعا حضاريا كما كانت تدعي.
لا يختلف اثنان في ان المشروع الإسلامي السوداني فشل على مختلف المستويات وبكل المقاييس وقد اعترف مؤسس النظام بالفشل. لكن الفشل أوجد قناعة لدى الكثيرين من الحركيين الإسلاميين أنفسهم الذين كان لهم حضورهم داخل ذلك الكيان الكبير بعدم نجاح اي مشروع إسلامي في السودان مستقبلا وانه لم (تقم قائمة) لأية حركة إسلامية تنادي بتحكيم الشريعة الإسلامية في السودان، وقد يكون هذا الكلام مستغربا ولكن الذي يعرف الحركة الاسلامية التي جاهدت قرابة النصف قرن من الزمان لتأسيس دولة للاسلام في تلك المنطقة اذ تجذرت في عمق المجتمع السوداني وذاع صيتها في العالمين، لم تكن على قدر المشروع الذي طرحته وعملت من اجله كل تلك السنوات الطوال، وقدمت فيه الغالي والنفيس، لم تكن على قدر هذا التجذر السياسي والاجتماعي وفشلت في ان ترسي قيم الاسلام في مجتمع اساسا قام على الاسلام السمح بحسب قول الرسول الكريم (ص) «سمحا اذا باع وسمحا اذا اشترى» وقد عرف الشعب السوداني على مدى التاريخ بالسمعة الطيبة في الاخلاق والعلم وحب الكرامة وفي عدم ترخيص النفس من اجل متاع زائل، كما عرف بالنخوة والشهامة والامانة، والقوة في قول الحق، ليست المعضلة في ان الحركة الاسلامية لم ترس قيم الاسلام في المجتمع فحسب بل المعضلة الكبرى انها غيرت من تركيبة الانسان السوداني، وجعلته ضعيف النفس.
اهمال العنصر النسائي
إذا تأملنا واعدنا النظر إلى المسيرات المليونية الأولى (1983) والثانية (1988) التي أدت إلى خلخلة القناعات في الحركة السياسية السودانية ولفتت انتباه العسكريين إلى قوة التيار الإسلامي وامكانات نجاحه في قيادة التغيير أبرزت قوة الحركة الإسلامية الضاربة في المجتمع من خلال العنصر النسائي، إذ كانت نسبة النساء من طالبات الجامعات والمدارس الثانوية والخريجات وربات البيوت وموظفات الدولة تفوق عدد الرجال المشاركين في التظاهرات. ولا ينكر ذلك إلا مكابر، وهذا الكم الهائل من القوة البشرية المتمثل في نساء الحركة قد أهمل تماما منذ ان استلمت الحركة الإسلامية زمام الأمور في السودان وليس ذلك فحسب بل انهارت قوة مجتمع الحركة الإسلامية نفسه واصبح الحديث عن طلاق أعضاء الحركة لزوجاتهم يأخذ متسعا من النقاش الداخلي بين الأفراد، ثم انتشرت ظاهرة الزواج من السكرتيرات في السر، ثم انتشرت الكثير من الظواهر السالبة التي كشفت عن هزيمة الحركة الإسلامية بكل تاريخها وصولجانها وإعلامها وقادتها وأجهزتها أمام مغريات النفس. وكان الشباب عندما يتحدثون إلى قادة الصف الثالث أو الرابع في الحركة عن ظواهر الهزيمة النفسية والفكرية كانوا يستخفون قائليين إنها لم تأخذ الشكل الخطير بعد، حتى انهارت الحركة الاسلامية تلقائيا من دون ضغوط خارجية ونتيجة عوامل داخلية، واصبحت الحركة عبارة عن حزب سلطوي لا يمثل الاسلام في شي على رغم المظاهر الخداعة هنا وهناك. واثمرت حركة الانقاذ القناة الفضائية السودانية بشكل جيد وحافظت فيه على ماء وجهها بالنسبة إلى العرب والخليجيين وغيرهم الذين ينتظرون دولة الاسلام الجديدة.
افراد الحركة الاسلامية منذ ان استلموا السلطة ابتعدوا عن اسرهم واصبحت عوائل الاسلاميين في مشكلات كثيرة ومتعددة بسبب غياب ولي الامر او ربة الاسرة عن الساعات الطوال بحجة الاجتماعات والانشغال بهموم الدولة فكانت بداية البداية ، فبعدت الشقة بين الاباء واسرهم شيئا فشيئا وكان واضحا بعد العام الثالث للنظام اندثار ادبيات الحركة الاسلامية عن المجتمع الخاص. دهشة الشباب عظيمة عندما كانوا يشاهدون بعض قادتهم يحمل سيجارة، وكانت كل تلك المسائل احاديث تضج بها مجتمعات الشباب الذين فقدوا الامل في الدولة الحلم التي كانت تمنيهم بها الحركة الاسلامية في اوقات سابقة.
ومن جانب آخر ان الاسلاميين انفسهم لم يمثلوا للشعب السوداني القدوة في تغيير وجه المجتمع بما كانت تقول استراتيجاتهم في التغيير وآلياته، في الوقت ذاته كانت اسرهم هي التي تتمتع بالحياة من خلال السكن الفاخر وامتلاك السيارات والسفر خارج السودان بين الحينة والاخرى في الوقت الذي كان المجتمع السوداني يعاني من ضيق وصعوبة العيش والحياة.
إذا ما أمعنا النظر في الانتكاسة الاجتماعية داخل الحركة نتأكد تماما ان الحركة الإسلامية التي شغلت العالم لم يكن لها رؤية اجتماعية تصاحب العمل السياسي والأمني، وكان واضحا ان العمل من اجل الإمساك بكراسي السلطة هو الهدف الكبير الذي اعمى الحركة عن أية أخطار أخرى قد تصيبها في مقتل، وكان المقتل هو الجانب الاجتماعي، فأي مشروع حضاري هذا لم يأخذ في حساباته أهم جزئية في مكنة الحركة.
كانت قادة الحركة الاسلامية دائمة التباهي بأن حزبهم أسس على أجهزة متخصصة تخضع للمراجعة والمساءلة القاعدية المنظمة، وانه للمرة الأولى في تاريخ السودان استطاعت جماعة أن تنشئ وعاء سياسيا فيه أكبر مشاركة فعالة، وان حزبها يضم الآلاف من قادة المجتمع في السياسة والاقتصاد، مملحين الى ان حزبهم هو الاحق بحكم البلاد ما دامت هذه هي مواصفاته.
كانت هذه الأحاديث تقال في الفترة من 1987 وحتى 1992 عندما كانت فعلا الحركة الاسلامية قوة تنظيمية مثل حبات المسبحة مرتبطة بشكل أو بآخر بالقيادة وببعضها بعضا وعندما كانت بهذا الشكل كانت الحركة أكثر تأثيرا في المجتمع. ولكن... ما الذي حدث داخل صفوف الاسلاميين. حدث ما حذر منه الترابي يوما من أن الاسلاميين من جماعته وهو يعرفهم جيدا سيكونون أكثر عرضة للفتنة، وهم أضعف من أن يقفوا ضدها بالشكل الذي لا يؤثر في كيانهم... وصدق حدسهم.
الكثير من المنظرين والمحللين وصفوا ما حدث في الحركة الاسلامية بأنه نتيجة لغياب النظرية التنظيمية التي تهدف الى ايجاد الشكل التنظيمي الفعال الذي من خلاله تتحقق الأهداف المرجوة للجماعة... نعم ذلك صحيح ولكن ليس هو السبب الحقيقي فالسبب الحقيقي هو أن رجالات الحركة الاسلامية فتنوا بالسلطة والجاه لأن السلطة تعطي امتيازات كانت غير موجودة في حياة الفرد... الاعلام... الحاشية... المال ..المنافقون .. الاحساس بحلاوة الدنيا. سيما وأنه بعد نجاح انقلاب الانقاذ أصبح كل قادة الحركة الاسلامية وعلى كل مستوياتها مسئولين - سواء في مناصب دستورية أو غيرها، وغالبية شباب الحركة أصبحوا في موقع مسئولية في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية... وقد لا يتخيل الانسان العادي أن شخصا ما كان يسكن في منزل متواضع ويستخدم المواصلات العامة ويمشي في الأسواق ويصلي غالبية الأوقات المفروضة في مسجد الحي ويلاقي أهل منطقته ويختلط بالمواطنين في أصغر مناسباتهم... أصبح في منزل حكومي ويقود سيارة فارهة، فتغير نمط اللبس والأكل وتغير الناس الذين كان يتعامل معهم ويصلي معهم. دخلت المفردات الجديدة في تعامله مع الناس وانتشرت مسألة «البوفيه المفتوح» داخل بيوت قادة الحركة (قادة السودان) والولائم بمجيء فلان ووداع فلان، وزواج فلان.
ومع التطور في الابتلاءات ظهرت داخل المؤسسات التنظيمية مسألة الصراع على المناصب والاهتمام بالامتيازات والمخصصات ثم كان ميلاد تكتلات مراكز القوى على مجالين السياسة والتجارة فاصبحت مجموعة فلان زيد يعمل لصالح عبيد. وعبيد يعمل لصالح زيد وأصبحت هذه التكتلات تنتقل من الهياكل التنظيمية وتخترق الأجهزة الرسمية. وأصبح كل من يريد دخول هذا العالم لابد أن يبصم ويقدم فروض الطاعة لزعيم المجموعة سياسية كانت أم تجارية. فالتنظيم انهار تلقائيا قبل مسرحية حله في العام 1992 لسبب طبيعي هو أن القاعدة الهيكلية التنظيمية انصهرت تلقائيا في هذه التكتلات وأصبح التنظيم موجود في ذاكرة الناس وعلى الورق وغابت تماما الديناميكية التي كانت تقود حركة تنفيذ البرامج الموضوعة سواء في القواعد الشعبية داخل المساجد والمؤسسات أو في الأجهزة النقابية، ولذلك كان جليا ان الكسب الاسلامي الذي كسبته الحركة في فترة «الديمقراطية الثالثة» تلاشي تماما الى غير رجعة
إقرأ أيضا لـ "خالد أبو أحمد"العدد 441 - الخميس 20 نوفمبر 2003م الموافق 25 رمضان 1424هـ
جودة
ان التجربة السودانية المسماة اسلامية بقوانينها واجهزتها كلها في مزبلة التاريخ والاسلام برى من هذه التجربة الفاشلة