هناك مجتمعات واقتصادات قليلة في العالم كانت محصنة في وجه التحول إلى نمط أكثر اندماجاً ومركزية وتسلطاً خلال العقود الأخيرة. بعض المجتمعات كانت كذلك دائماً بالطبع، لكن مجتمعات أخرى ذات تاريخ طويل من الديمقراطية التشاركية ترتدّ الآن إلى ممارسات الأزمنة الإقطاعية والاستعمارية. في هذا العصر، حيث الحاجة ماسّة إلى المجتمع المدني، يتعرض هذا المجتمع المدني في كل مكان لهجوم متزايد، ليس من الناس عموماً بل خصوصاً من قوى الحكومات والشركات الكبرى.
لقد بدأت نظمنا البشرية تتعافى من الأزمات الاقتصادية الأخيرة. والسؤال هو ما إذا كانت النظم الطبيعية ستتبعها. الطبيعة شديدة المرونة. لقد كافحت ببسالة لصدّ هجماتنا الوحشية والتغيير الذي نفرضه عليها بتكديس غازات الدفيئة في الغلاف الجوي وتحميض المحيطات واستقدام أنواع حية دخيلة واستخراج متهوِّر للموارد وغير ذلك. لكن قد تكون هناك نقطة يبدأ بعدها المحيط الحيوي بالانهيار، آخذاً الجنس البشري معه. تلك النقطة، برأي كثير من علماء الأرض حالياً، ليست بعيدة في الزمن.
في مواجهة هذا التهديد المطلق الداهم المتعدد الأوجه، يأتي المجتمع المدني بمجموعة من الأدوات السلمية ولكن القوية، من خلال منظماته غير الحكومية ومؤسساته البحثية وفرقه التطوعية وهيئاته اللاربحية. نحن نعلم أن معارفنا النافعة عن الطبيعة مُعْدية، تنتشر في أنحاء العالم مثل فيروس حميد، محولة الناس والمؤسسات على السواء. وعملنا الناجح في تمكين الناس المهمشين للحفاظ على النظم الايكولوجية هو تعامل طوعي معتمد على الطلب، يوازن الحقوق الجديدة مع المسئوليات العريضة. كلتا المقايضتين تذكراننا بأنه في كل أعمالنا مع الحوكمة، التي يراوح تأثيرها من الأمم المتحدة إلى المناطق النائية في العالم النامي، تكون منظمات المجتمع المدني من الجهات التي لا تمارس ولا تستطيع ممارسة القوة الصارمة أو قوة القانون أو قوة البندقية.
إن اعتمادنا “القوة الناعمة” هو مصدر السمعة الحسنة لشبكة المنظمات المستقلة، ولكل منها مشاكل وأدوات حلول. إنها الفكرة الخالدة بأن الحوكمة الشاملة والعادلة والمنصفة والمستدامة للمجتمع والطبيعة هي، بحسب ما كتب آلدو ليوبولد، “إمكانية تطورية وضرورة إيكولوجية”.
كل سنة، فيما يؤدي ازدياد شح الموارد إلى مزيد من النزاعات، وفيما يخلق الاحترار العالمي لاجئي مناخ، وفيما تحدّ خسارة التنوع البيولوجي سعينا إلى حياة أفضل، تكون القوة الناعمة في قطاعنا على المحك أكثر من أي وقت مضى. وثمة إغراء لأي نخبة بأن تحاول فرض تغييرات، فتفرض تعديلات سريعة تستثني أكثر الناس تعرضاً للخطر. لكننا ندرك أن “التكتيكات” المقصورة على مجموعات معينة تأتي دائماً بنتائج عكسية، إذ تفقد الثقة، وهي القوة التي تشدّ أواصر المجتمع ولحمته بسرعة لمواجهة التحديات الخطيرة. القوة الصارمة سريعة الزوال. وحدها القوة الناعمة تدوم.
هذه الحقيقة تدفعنا إلى تنظيم دورنا وموقعنا في مجال الحوكمة، عالمياً ووطنياً، ومحلياً على وجه الخصوص. العالم على مفترق طرق، وكذلك المجتمع المدني. كيف تستطيع المنظمات غير الحكومية أن تستفيد بأقصى فعالية من المعرفة والتمكين بطرق تعزز العدالة الاجتماعية الحقيقية والحماية الفعالة على جميع مستويات الحوكمة؟ علمتنا التجربة أن الهرميّة (نظم التسلسل الهرمي) يمكن أن تتداعى، لكن الشبكات تبقى مرنة وصامدة. إن شبكاتنا العالمية الفريدة تصل بين الناس وصانعي القرارات، وبين الشركات والحكومات، وبين الأغنياء والفقراء، وبين العلم والمجتمع المدني، وبين الشعوب الأصلية ومسئولي الأمم المتحدة. وفي رأس أولويات هذه الشبكة ما هو ممكن تطورياً وما هو ضروري إيكولوجياً.
لذلك نعمل على ما يأتي: حماية المجتمع والمحيط الحيوي بتركيز على الأدلة التي تظهر قيمة العدالة والحماية، تحليل المسائل الاقتصادية والتوزيعية في الحماية، أو الفشل في القيام بذلك، توضيح الأسس لإقامة علاقات ملائمة بين المجتمع المدني وقطاع الأعمال، تحسين الإدراك لدى جميع شرائح المجتمع بأن العدالة الاجتماعية والاقتصادية هي في مصلحة الجميع، رفع مستوى العمل بشأن عمليات النظم الايكولوجية إلى مستوى العمل بشأن الأنواع الحية والموائل.
يتطلب الجهد المطلوب لتنفيذ هذه الأولويات إشراك جماهير واسعة. وتتضمن التحويلات التي ذكرناها، لإعادة التنظيم الإداري والمنهجي والبرنامجي، درجة معينة من المخاطرة. بل إن تحولنا المستمر ربما كان مرادفاً للخطر. لكنه، وفق أي منظور، خطر محسوب، خطر ضروري، مثل جميع أشكال التغير التطوري في الطبيعة. والتحديات التي يواجهها الجنس البشري على كوكبنا، الذي يزداد تمدُّناً وسخونة وجوعاً واكتظاظاً، تجعل عدم التحرك أكبر خطر على الإطلاق.
إقرأ أيضا لـ "أشوك خوسلا"العدد 4409 - الخميس 02 أكتوبر 2014م الموافق 08 ذي الحجة 1435هـ
وببساطة وبإشارة صريحة وواضحة
كيف يتمكن المرء من المساهمة الفاعلة ضمن. هذه القوى الناعمة ؟