في القراءة محنة. أن تقف على حدود معرفتك. أن تتعرّف على جهلك. أن تفهم صعوبة الخروج من دائرة الجهل وأنت مُقيَّد بوهم المعرفة. في المعرفة لا حدود نهائية. يمكن للجهل أن يكون نهائياً. يكفي ألاّ تعرف ذاتك. ذلك أول الجهل ونهايته. ويمكن للجهل أن يكون نهائياً في صورة أخرى: أن توهم نفسك بمعرفة كل شيء. ذلك جهل لا علاج له. لا فاصل بينه وبين الليل فيك وأنت متطفل على نهارات الآخرين.
محنة القراءة تتبدّى في التغيير الذي يمكن أن تحدثه فيك أولاً، وما/ من حولك ثانياً. كل قراءة لا تحدث تغييراً مهما كان ضئيلاً، هي محض إسراف. كتائهٍ يسرف في الماء في أول الطريق إلى صحراء لا تعِدُ إلا بالتيه والظمأ وتلاشي الجهات.
محنة هي كلما امتدت الصحراء فيك. بالرمادي فيها/ فيك. بالحياة الناقصة. الحياة المهددة مع كل سهو عن الجهات وضياعها. القراءة تمنحك الانتباه. تحصّنك من السهو القاتل. تأتي لك بالجهات. هي بوصلتك حين تلتبس عليك.
محنة أن تقرأ لتسوء. يتراجع فيك كل شيء. لم تقرأ أنت ساعتها. كنت كمن يستمع إلى الموسيقى من وراء زجاج عازل للصوت. الموسيقى هناك. وأنت بالمشاهدة هناك. الموسيقى صوت أولاً ومشاهدة ثانية. لنقل: تراهما بالإنصات. القراءة صوت قبل أن تكون مشاهدة. تراها صوتاً في هذا المقام. تلك محنة أخرى إن لم تبلغ ذلك المعنى وتقترب من الصوت أو يقترب منك!
لا يمكنك أن تُعطي تصوراً للعالم وللبشر ما لم ترَ (قراءة) تصوُّر الآخرين. ولكي تقدّم تصوراً عن نفسك، تحتاج إلى أن تكون قارئاً جيداً لتصوّر الآخرين للعالم وما/ من حولهم.
وفي محنة القراءة ما هو أدهى وأمَرُّ، ألاَّ تجد ما تقرأ في بيئة منفّرة وطاردة للمعرفة. ألاَّ تجد بمعنى أن تتخلّّق وتتثبّت بظروف لا ترى في القراءة معها إلا ضرْباً من الإسراف واختلاط الأولويات. أولوية أن تأكل وترفّه عن نفسك، أم أولوية القراءة؟ وضع القراءة ضمن الأولويات وليست أولوية، في واقع ومحيط وظروف كالذي نُحاصر فيه، يكاد يقترب من الانفصال الكلي عن كل ذلك. وأحياناً تبدو المحنة في النتاجات المُوجّهة تلك التي تحتل المشهد؛ تكريساً وتبريراً لواقع مُخْتلّ ومختطف بفعل أكثر من محنة!
القراءة بيتك الذي تأوي إليه في التشرُّد الذي يطبعُك في صورة أو أخرى. تشرّد ليس بالضرورة في الحرمان من المأوى. من المكان والسقف الخاص. قد يأتي في صورة عزلة سيئة لا تفتقد فيها العالم من حولك فحسب؛ بل تفتقد فيها نفسك. لا تجدها كما يجب؛ أو كما تعرفها.
القراءة محاولة أخرى لإعادة صوغ العلاقة بينك وبين ما يستجدّ من طرق النظر والتفكير والعلاقات مع العالم من حولك. من دون التجديد والتحوّل في كل ذلك؛ تظل القراءة صورة أخرى للهامش والتشرد الذي تحياه. وتلك هي «أم المحن»!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4403 - الجمعة 26 سبتمبر 2014م الموافق 02 ذي الحجة 1435هـ