أكدت الرئيسة الاندونيسية ميغاواتي سوكارنو ان تفجيرات بالي الاخيرة «تحذير لنا جميعا من ان الارهاب خطر حقيقي وتهديد كبير للأمن القومي»، ولسان حال الرئيسة يشير ويؤكد أن منطقة جنوب شرقي آسيا هي الجبهة الثانية للحرب ضد الارهاب الدولي، وان اندونيسيا هي أفغانستان المقبلة، كما جاء في تقرير الـ (ناشينول ريفيو) مطلع العام الجاري.
وبالطبع بين تنبؤات (ناشينول ريفيو) وتأكيدات الرئيسة ميغاواتي قواسم مشتركة كثيرة تدور في معظمها حول تصاعد الارهاب وموجات العنف الطائفي الذي يجتاح اندونيسيا ويضعها على شفير الانهيار منذ اكثر من ثلاث سنوات اثر سقوط سوهارتو العام 1998.
وليست التفجيرات ومسلسلات العنف الطائفي السياسي جديدة وطارئة على اندونيسيا، اذ تمتد جذورها إلى اواسط الستينات ومذابح الشيوعيين، اكثر من نصف مليون قتيل في غضون ستة أشهر، حصيلة حركة التطهير- الابادة التي نفذها سوهارتو ضد المعارضين الذين عبأهم سوكارنو لخدمة سياسته الخارجية من خلال تحالفه مع حركة «نهضة العلماء»، اكبر وأقدم منظمة اسلامية في اندونيسيا، عرفت بنهجها التقليدي المحافظ ومواجهة الخطر الشيوعي ومقاومته، الشعار الذي لايزال معقودا على ناصية «نهضة العلماء».
وما لبث سوهارتو ان انقلب على حلفاء الأمس (الاسلاميين) من خلال نظامه الاصلاحي الجديد واحياء الايديولوجية الوطنية (البانكاسيلا) بمبادئها الخمسة: الايمان بالله، الانسانية، الوطنية، العدالة الاجتماعية والديمقراطية. وطالب جميع المنظمات السياسية والاجتماعية والدينية باعتمادها اساسا في مناهجها بهدف ضمان حقوق الاقليات الدينية والعرقية في البلاد. ومن هنا بدأت المعركة واتسعت جبهات المواجهة والتحدي بين الحكومة المركزية والجماعات الاسلامية ما بين الدعوة إلى الديمقراطية وتطبيق الشريعة، وتضامنت المنظمات الاسلامية، بما فيها «نهضة العلماء»، بوجه العملية الديمقراطية الداعية إلى اصلاحات وتغييرات في قانون الاحوال الإسلامية، الامر الذي أثار غضب وسخط الاسلاميين وتشددهم في تطبيق الشريعة.
وجاءت انتخابات 1999 وسقوط احكام الطوارئ (1965 - 1998) لتشهد مشاركة وبروز عدد كبير للاحزاب الاسلامية. وترجمت الاخيرة تضامنها والتزامها بتطبيق الشريعة بالفتوى «لا يحق للمرأة تولي امور المسلمين»، التي حرمت ميغاواتي من تصدي رئاسة البلاد بعد ان فاز حزبها، حزب النضال الديمقراطي، بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية. وفي غضون عام ونصف العام، تداعت الاحداث سراعا في اندونيسيا وأطاح البرلمان بالرئيس عبدالرحمن وحيد في ظل حراب الجيش ومدافعه. وبعد 80 عاما على تأسيسها مالت منظمة «نهضة العلماء» إلى التشدد والاصولية في معركتها على السلطة والحكم.
وإلى جانب التشدد والاصولية ودعوتها إلى تطبيق الشريعة، تقف عوامل أخرى وراء تصاعد اعمال العنف والتفجيرات في اندونيسيا. ومن بين هذه العوامل تهديدات الحركات الانفصالية للحكومة المركزية في جاكارتا، فمنذ ولادتها العام 1945، واجهت الاخيرة حركة انفصالية في غرب جاوا أدت إلى اعلان دولة اسلامية هناك العام 1949 سقطت خلال أشهر قليلة ثم عادت إلى الظهور بين العامي 1961 و1962.
هذا في المركز، اما في الاطراف فلم يزل طيف الانفصال من تيمور في الشرق إلى اكيه في الغرب تزداد مساحته وتتعدد ألوانه القومية والعرقية والدينية، يضم الارخبيل الاندونيسي اكثر من 300 مجموعة عرقية ودينية تتكلم مئات اللغات المحلية وتفاقمت الأوضاع في الجزر الاطراف. فقد شهدت جزيرة مالكاو خلال العامين الماضيين، اكبر وأعنف معارك دارت رحاها بين المسلمين والمسيحيين، خشية استئثار احدهما من دون الآخر في حكم الجزيرة وشئونها، وتتأسى مالكاو بتيمور الشرقية واستفتائها على تقرير المصير، ذلك الاستفتاء الذي رفضه الجيش وقاوم نتائجه وتطوراته بشدة.
عوامل إضافية
وثمة عامل آخر يقف وراء تأزم اوضاع اندونيسيا ومسلسل تفجيراتها يتمثل في تركة سوهارتو العسكرية وموقفها تجاه الحركة الاصلاحية الجديدة، فعلى مدى اكثر من ثلاثة عقود (1965 - 1998)، كان سوهارتو قد اعتمد العسكر اساسا في الحكم والسياسة بتقليدهم مناصب الدولة العليا: وزراء وسفراء وحكام اقاليم إلى جانب المخابرات والامن والدفاع. وفي عشية وضحاها، انتصرت الحركة الاصلاحية وانتخاباتها العام 1999، وبات العسكر وتركته الثقيلة عقبة في طريق الحكومة الجديدة واصلاحاتها الديمقراطية. وعزت اجهزة الامن والشرطة كثيرا من التفجيرات التي شهدتها المراكز الحكومية والشعبية الاندونيسية إلى الجيش، اذ اتسعت الفجوة واشتد العداء بينه وبين حكومة الرئيس. وكان العسكر احرز قصب السبق في الخروج على الرئيس وحيد ومناوأة حكومته العداء، فبينما انحت الاخيرة باللائمة على الجيش في توتر العلاقات بين المركز والاطراف وتصاعد اعمال العنف في أوساط الحركات الانفصالية الدينية والعرقية. اتهم العسكر الحكومة بالعجز الاداري والسياسي مؤكدا ان حكومة جاكرتا، أيا كانت مؤسساتها البرلمانية والحزبية، ليس بمقدورها ان تمسك بوحدة اندونيسيا ما لم يستعد الجيش نفوذه ومكانته في حكومات الاقاليم، اشارة إلى خلافة الجيش لنظام السلطنات القديم بتشكيلة عشر مناطق عسكرية حكمت الجزر الاندونيسية - 13 ألف جزيرة - حكما عسكريا مباشرا، ويقول رئيس التعبئة العسكرية الموالي لحزب النضال الديمقراطي الجنرال ريا مزارد راياكودو مخاطبا البرلمان: «اذا اردتم تفكيك البلاد وبلقنتها فعليكم بحل المجالس العسكرية الحاكمة في الاقاليم.
وهكذا، كانت هزيمة الرئيس وحيد انتصارا للعسكر اكثر منها للبرلمان. وتسلمت ميغاواتي سوكارنو رئاسة البلاد ولم تكن تخفي تقربها ودعمها للجيش لأمرين اساسيين: الاول، يكمن في ايديولوجيتها القومية وتحديات ترسيخ الوحدة الوطنية، ويتحدد الثاني في توجهاتها السياسية الليبرالية المتباعدة عن خط وتوجهات الجماعات والحركات الاسلامية نحو تطبيق الشريعة، وتلاقت توجهات الرئيسة ميغاواتي واجراءات حكومتها بإعادة الاعتبار إلى العسكر ومكانته في الحفاظ على وحدة وسيادة البلاد، والسياسة الاميركية الجديدة في جنوب شرق آسيا اثر حوادث 11 سبتمبر/ ايلول حين رفعت ادارة الرئيس جورج بوش الحظر الذي فرضه الكونغرس على التعاون العسكري والامني مع اندونيسيا جراء تدخلات وتهديدات الجيش في استفتاء تيمور الشرقية العام 1999. وكذلك، تلاقت السياسة الجديدة لحكومة جاكرتا مع سياسات دول المنطقة وعقدت دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان) العشر تحالفا استراتيجيا لمحاربة الارهاب وعلى كل المستويات بدءا بحجز وتجميد الارصدة المالية للمنظمات والحركات الارهابية إلى تعزيز التعاون الامني والعسكري فيما بينها.
وفي ضوء هذه التوجهات والسياسات الجديدة، وبهدف حماية الامن القومي، خطت الرئيسة ميغاواتي خطوات واسعة على طريق تعزيز حكومتها المركزية، وطالبت باجراء ثلاثة تعديلات دستورية. يؤكد التعديل الاول الغاء وسلب الجمعية الوطنية التشريعية حقها في اقالة رئيس الجمهورية كما حصل للرئيس وحيد العام الماضي. فيما يتقدم التعديل الثاني بالدعوة إلى تخويل الهيئة التشريعية في انتخاب الرئيس بدلا من الانتخابات العامة جراء تصاعد موجات العنف الطائفي وحركات التمرد والانفصال الذي تعصف في ارجاء البلاد... وفي هذا التعديل - الاجراء تكون الرئيسة ميغاواتي حققت هدفين: الاول ضمان اصوات العسكر من خلال عودتهم إلى حكم الاقاليم كما دعا إليه التعديل الدستوري الثالث. فيما يهدف الثاني إلى عزل الهيئة التشريعية عن الاحزاب وضمان حيادها. وفي هذه الدعوة إلى مركزية الحكم تحذو الرئيسة ميغاواتي حذو والدها الأب المؤسس للدولة في اعتبار الديمقراطية الحزبية التنافسية تهدد اندونيسيا بالخطر ولا تلائم تقاليدها واوضاعها القومية الدينية، مبدلا اياها بـ «الديمقراطية الموجهة».
وفي خطوة ثانية على طريق المركزية في الحكم دعت الرئيسة ميغاواتي إلى الاصلاح الاقتصادي وانقاذ البلاد من الفقر، في غضون العامي 1997 و1998، ازدادت نسبة من هم تحت خط الفقر من 10 إلى 50 في المئة من مجموع السكان البالغ 230 مليون نسمة. وتحمل رسالة الاصلاح الاقتصادي في طياتها شئون الامن القومي واستقرار البلاد بغية الانفتاح على الاسواق العالمية وجذب الاستثمارات الاجنبية.
وجاءت تفجيرات بالي الاخيرة والكبيرة لتعزز هذه الخطوات وتعطي الرئيسة ميغاواتي زخما جديدا في مواصلتها ومضاعفتها لاسيما على طريق التحالف والعسكر، وبهذا تكون اندونيسيا واخواتها في «آسيان» دخلت مرحلة جديدة في السياسة الداخلية والخارجية في ظل عودة القوات العسكرية الاميركية إلى المنطقة وحربها ضد الارهاب في جبهته الثانية في جنوب شرق آسيا
العدد 44 - السبت 19 أكتوبر 2002م الموافق 12 شعبان 1423هـ