صباح الحادي والعشرين من سبتمبر، صباح اليوم الدوليّ للسلام، استيقظت تحدوني آمال عريضة في أن لا أسمع أخباراً عن الحروب. استيقظت مستحضراً دعوة الأمم المتحدة، هذا العام وككل عام، وهي تناشد كافة الأمم والشعوب الالتزام بوقف الأعمال العدائية خلال هذا اليوم، فخلته يوماً مختلفاً عن بقية الأيام. غير أنّ آمالي عصفت بها أولى النشرات الإخبارية على الساعة السابعة صباحاً، حين أذاعت الـ BBC أخبار الدمار وإطلاق النيران في اليمن بين الأخوة الأعداء، ومع امتداد ساعات النهار توالت أخبار أخرى من بؤر الدمار وساحات الاقتتال المألوفة. وهيهات هيهات أن تنفع هذه الدعوات طالما لم تتغير العقليات والاتجاهات محلياً ودولياً.
لقد تعززت الحاجة إلى السلام الدوليّ بعد أن تفاقمت أخطار النيران المتصاعدة مشحونةً بالعصبيات الدينية والقومية؛ إذْ تتوارد الأخبار من شتى بقاع العالم ما بين حروب أو إنذارات بالحروب، حتّى أنّ لهيب هذه النيران صار يهدّد العالم بأسره، ولم يعد بوسع الحكومات منفردة أن تدرأ هذه المخاطر دون مساعدة إقليمية أو دولية سواء تحت غطاء المنظمات الدوليّة أو دونها.
وإذْ لا يُنكِر أحد دور الأمم المتحدة في إقرار أيام دوليّة للسلم، والتسامح والعيش المشترك، وما إلى ذلك، من أجل ترسيخ حق الشعوب في السلم بما هو أمر حيويّ وحقّ من حقوق الإنسان، فإنّ حقيقة وجب الوقوف أمامها بجرأة والتصدي لها بواقعية، وهي أنّ مخادعة النفس بمجرد المناشدة لقيم التسامح والسلام وإصدار البيانات بصفة دورية بهذه المناسبة أو تلك من قبل هذه المنظمات، لم ولن يطفئ نيران العداوات البغيضة التي تستعرّ يوماً بعد يوم، خصوصاً أنّ هذه النيران تعتقد أنها مؤيدة بالعناية الإلهية، بل وتعتبر أنّ ما تأتيه واجبٌ مقدس، حتّى وإن كان المقتول ابن جلدته، أو أخاه في الملة أو الدين، أو موظفاً في منظمة إنسانية، أو إعلامياً، أو... وحتّى إن كان القتل بدم بارد ذبحاً، أو رمياً بالرصاص، أو... لكنّ الأدهى والأمرّ، بالنسبة إلينا، هو انجذاب عدد كبير من الشباب العربي والمسلم إلى بعض الجماعات القتالية في سورية والعراق وليبيا وغيرها من أقطار الوطن العربي، فكيف السبيل إلى تعديل هذه الاتجاهات وتوجيه ميول الناشئة والشباب نحو السلام فعلاً لا قولاً فقط؟
للبحث عن الحلول الناجعة لا مناص من استحضار ديباجة الميثاق التأسيسي لليونسكو: «لمّا كانت الحرب تتولد في عقول النساء والرجال، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام»، وهي مقولة مفتاحية في مسار بناء السلام، لأنه يتطلب الذهاب عميقاً في صلب المؤسسات التي من شأنها أن تبني العقول، وهي المؤسسات التعليمية بالأساس والثقافية والإعلامية والمنابر الدينية أيضاً؛ أمّا المؤسسات التعليمية فمن شأن البرامج المدرسية الصفية واللاصفية أن تُحدث نقلةً في ميول المتعلمين، كما أنّه من المفيد في دولنا العربية، عوض تحويل المدارس إلى ثكنات قتال وحرمان الأطفال من حقهم في السلام والتعلم بسلام كما هو الحال في سورية، من المفيد طرح مقرّرات مدرسية عن السلام سواءً بدراسة شخصيّات أو مواقف خالدة أو أحداث مؤثرة في إرساء السلام بين الشعوب. ولعل مملكة البحرين قد تكون سبّاقةً في هذا الإطار؛ إذْ نسجل بارتياح تأكيد وزير التربية والتعليم ماجد النعيمي أن الوزارة بصدد تطوير مناهج التربية للمواطنة لتتضمن تعزيز مفاهيم التسامح والعيش المشترك ضمن فكرة تربية السلام، وذلك بالتعاون مع منظمة «اليونسكو» وخبرائها في مكتب التربية الدولي بجنيف، وذلك في تصريح له بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للسلام هذا العام.
أمّا عربيّاً فمن المواقف المؤثرة في الاحتفاء باليوم الدوليّ للسلام للعام 2014، ذلك العرض الذي قدّمه طلاب المدرسة الثانوية رفيق الحريري بلبنان، في صيدا تحديداً، حيث وجّهوا على طريقتهم رسالة سلام لأجل لبنان، مشكّلين بأجسادهم وأياديهم المتشابكة شعار السلام العالمي، وذلك حين اصطفوا بشكل دائري رمزاً للكرة الأرضية تتوسطهم صورة الرئيس رفيق الحريري، وحمل بعضهم مجسمات لحمامات بيضاء رمزاً للسلام، ثم أنشدوا النشيد الوطني وأغنيات عالمية تدعو لإحلال السلام في العالم.
أمّا بالنسبة إلى دور القطاع الثقافي، ومؤسساته المنتشرة والمدعومة، فهو يتعاظم يوماً بعد يوم، من أجل تنشئة الأجيال القادمة على السلام فعلاً وقولاً. ويُعدُّ العقد الدوليّ للتقارب بين الثقافات (2013-2022)، الذي تتولى «اليونسكو» ريادته، فرصةً للتعاضد من أجل بناء «ثقافة سلام» حقيقية، تماشياً مع إعلان (ياموسوكرو) المعتمد منذ 25 عاماً، فمتى تنهض المؤسسات الثقافية بواجب تعديل العقول والاتجاهات من أجل إسكات أصوات المدافع ووقف العنف؟
وأمّا المؤسسات الإعلامية فهي، وإن كان من أدوارها نقل الأخبار بشفافية وموضوعية، فإنّ تركيز أخبارها وتحاليلها في نشراتها وصفحاتها الرئيسية على أخبار الحروب بشكل لافت، مقابل إهمال تغطية واسعة لأخبار السلام ومبادرات نشر ثقافة التسامح واللاعنف، يعتبر تقصيراً واضحاً في تنشئة العقول على مبادئ السلام.
وعلى المؤسسات الدينية ذات التأثير القوي والخطاب الجاذب، أن تعيد هيكلة خطاباتها، وأن يتحمل قادتها دورهم في بناء شخصية تؤمن بالسلام والتعايش ونبذ العنف وسيلةً لحلّ المشاكل من خلال الدروس والمحاضرات والكتابات التي يقع نشرها وتوزيعها.
إنّ اتحاد جهود هذه المؤسسات مع إرادة سياسيّة صادقة نحو إحلال السلام، من شأنه أن يجعل بوارق الأمل في عالم أفضل مشعّة بازغاً نورها، ومن شأنها كذلك أن تصنع أياماً حقيقية للسلام لا مجرد أحلام وشعارات ومناشدات سرعان ما تتحوّل إلى أوهام.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4399 - الإثنين 22 سبتمبر 2014م الموافق 28 ذي القعدة 1435هـ
رااائع
راااائع كعادتك أستاذ سليم ...
ما أحوجنا إلى عقول تتمتع بالحكمة ، وقلوب محبة ... للحب والسلام
وإلى الأمام دوما أستاذي الفاضل
لا صوت يعلو على صوت الحرب
مقال رائع استاذ سليم من حيث مقاربته لحاجة الانسان الطبيعية الى بيئة يشيع فيها السلام وعالم يعلو فيه صوت الفرح على ما عداه من الاصوات. غير أنّه من المؤسف ان نلحظ أنّ الصوت الطّاغي هو صراخ الأرامل والثّكالى وصرخات الاحلام وهي تهرم وتشيخ يوما بعد يوم وعويل الاوطان وهي تتفتّت في كلّ آن. فعلا أستاذ نحن نعيش زمن القتل المقدّس. في حاجة نحن الى إعلام والى فن والى ادب ينشر ثقافة التسامح...مازال فينا متسع للحلم رغم كلّ هذا التغول الموحش للحرب...فلنكن نحن السلم ولنكن نحن الامل
آه من الخطاب الديني وخاصة المتعصب
وعلى المؤسسات الدينية ذات التأثير القوي والخطاب الجاذب، أن تعيد هيكلة خطاباتها، وأن يتحمل قادتها دورهم في بناء شخصية تؤمن بالسلام والتعايش ونبذ العنف وسيلةً لحلّ المشاكل من خلال الدروس والمحاضرات والكتابات التي يقع نشرها وتوزيعها.
يوم السلام الدوليّ... سلام لا أوهام!
سلام قولا وفعلا إن شاء الله لو يقع العمل بما تقترحونه من أفكار رائدة
شكرا على المقال أستاذ
طرح جميل
نحييك على هذاالطرح في وقت يتم تسليط المتطرفين والتكفيريين على الامة العربية والاسلامية لتعيث في الارض فساداً. وقتلا وذبحا وسفكاً للدماء. شكرا لك على هذا الطرح.
صحيح
لقد تعززت الحاجة إلى السلام الدوليّ بعد أن تفاقمت أخطار النيران المتصاعدة مشحونةً بالعصبيات الدينية والقومية؛ إذْ تتوارد الأخبار من شتى بقاع العالم ما بين حروب أو إنذارات بالحروب، حتّى أنّ لهيب هذه النيران صار يهدّد العالم بأسره، ولم يعد بوسع الحكومات منفردة أن تدرأ هذه المخاطر دون مساعدة إقليمية أو دولية سواء تحت غطاء المنظمات الدوليّة أو دونها.
يا سلام يا أستاذ
رائع والله أسلوبا وفكرا