كتبتُ في «تويتر» قبل مدة عن سعادتي باستخدام تقنية الكتاب الإلكتروني الذي ساعدني لقراءة عدد كبير من الكتب. فالكتاب الإلكتروني خفيف، لأنك تحفظه في جهاز «آي باد» أو أي هاتف محمول. ويمكنك قراءته في أي وقت، وتحت أي ظرف، لأنك لا تحتاج إلى إضاءة، ولا قلم، ولا أية أداة لتضع علامة في الصفحات التي تهمك، أو لتظلل الأسطر التي تود الرجوع إليها. أما أهم ميزة فيه فهي أنك تستطيع حمل مكتبة كاملة في جهاز صغير.
كنت مسافراً مرة وفتحتُ مكتبتي الإلكترونية لأحسب عدد الكتب الموجودة فيها، ثم تساءلتُ: ماذا لو لم توجد هذه التقنية واضطررتُ إلى حمل كل هذه الكتب، كيف سأتمكن من ذلك! فوجدتني أتنقل من كتاب إلى آخر بكل بساطة وأريحية وأنا أرتشف فنجان قهوة في مكان قصيّ من الريف.
بعد أن غرّدتُ عن جمال الكتاب الإلكتروني انهالت عليّ ردود كثيرة من القراء، تحدثّ أغلبهم عن تعلّقهم بالكتاب المطبوع، وكتبوا طويلاً عن عشقهم لرائحة الصفحات والاستمتاع بصوت تقليبها. فتحتُ الإنترنت وبحثتُ عن إحصائيات حول الكتاب الإلكتروني مقارنة بالمطبوع فوجدتُ دراسة قامت بها شركة «برايس ووتر هاوس كوبرز»، قالت فيها إن مبيعات الكتب الإلكترونية شكّلت بين عامي 2012 و2013 نسبة 26% من مبيعات الكتب في الولايات المتحدة. بينما في العام 2009 لم تتجاوز تلك النسبة 3%. وتوقعت الدراسة أن تتجاوز مبيعات الكتاب الإلكتروني في مجال الرواية، في بريطانيا، مبيعات الكتاب المطبوع بحلول العام 2018. فالجيل الجديد، الذي تتراوح أعمار أفراده بين 16 و22 عاماً، والذي صار هو الشريحة المستهدفة، ساهم في تغيير مسار النشر في العالم، شجّعته في ذلك روايات الخيال كـ «هاري بوتر» و»لعبة الجوع» )The Hunger Game) وغيرها من القصص التي لاقت رواجاً غير مسبوق عند القراء ومحبّي السينما.
إن من العَصيّ على المرء أن يُقاوم التغيّرات الحضارية التي تمر بها البشرية، والمتأقلمون وحدهم قادرون على صناعة المستقبل وتحويل مسار الرأي العام. في مقالة مطولة بعنوان «من الحصان إلى قوة الحصان»، تحدّث كاتبها عن تحوّل البشرية من الخيول إلى السيارات، فيقول إنه في العام 1898 عُقِد مؤتمر عالمي في مدينة نيويورك عن التخطيط الحضري، وتركزت النقاشات حول مشكلة تراكم مخلفات الخيول في المدن، حيث وصلت إلى مستويات غير مسبوقة. وأشارت دراسة نُشرت حينها إلى أنه إذا استمر الوضع بالطريقة نفسها فإن مخلفات الخيول ستملأ شوارع منهاتن حتى تصل إلى ارتفاع ثلاث طوابق بحلول العام 1930. وبعد ثلاثة أيام انفض المؤتمر – الذي كان مفترضاً به أن يستمر عشرة أيام– دون توصل المؤتمرين إلى أي نتيجة غير الإحباط. ولكن، مع دخول القرن العشرين، وبدء انتشار السيارات، أخذ الناس يقارنون المآسي الحَضَريّة التي خلّفها اعتمادهم على الخيول وبين تحوّلهم إلى استخدام السيارات. فبدأوا بالتحوّل تدريجياً، ثم حدثت هجرة جماعية تجاه السيارات. وفي العام 1912 تجاوز عدد السيارات في شوارع المدينة عدد الخيول لأول مرة. لقد كان لذلك التحول أثر كبير في نمو المدينة وتنظيمها واتساعها وتنظيفها وتغيير مسار الحضارة البشرية بشكل عارم، فالحضارات تتطوّر وتنمو كلما تطورت وسائل النقل.
وكذلك الحال عند محبّي الموسيقى، فلقد جاء اختراع «آي بود» العام 2001 كإعلان عن تحوّل صناعة الموسيقى تماماً. ورغم محاولة الكثير من شركات السيارات المزاوجة بين استخدام الشريط والاسطوانة والآي بود، إلا أن الأخير هزم جميع الوسائل الأخرى وصار هو البديل الأوحد. والناظر إلى سوق الموسيقى اليوم يدرك حجم النمو الهائل الذي حصل بسبب هذا الاختراع البسيط.
إن من يقبع في الماضي هو الخاسر الأكبر في عجلة النمو الإنساني، ولكي نخرج من أزمة الانشطار النفسي والتذبذب العاطفي بين الماضي والمستقبل، فإننا بحاجة إلى إيجاد صيغة توافقية بين التفكير الكلاسيكي وبين العصْرنة. فمحاولة التخلص من عباءة الكلاسيكية بخلعها مرةً واحدةً ووطئها بحجّة مقاومة الرجعية سيشكل ردة فعل عكسية، قوامها مقولات مثل «القديم أجمل». ورغم جمال القديم وأهمية الاحتفاء به وبالتراث الإنساني، إلا أن المستقبل هو الحقيقة الفاعلة والمؤثرة في تقدم البشرية.
إن التقدمية في أبسط صورها - كالتحرر من العواطف والحنين إلى الماضي - كفيلة بجعل الإنسان أكثر انفتاحاً على الأطروحات الكونية، وأكثر تقبلاً لمناقشة الأفكار العارمة التي تغزو المجتمعات من الشرق إلى الغرب، دون الشعور بالانهزامية أو الانغماس في الاستهلاكية.
إن هذه التحوّلات الحضارية جديرة بالوقوف عندها، والاندهاش من سرعتها، والذهول من مدى تأثيرها، حتى نستطيع استيعابها ونكون مساهمين فيها. البقاء ليس للأقوى ولا للأسرع، بل للأكثر تأقلماً. وكلما امتلكت الأشياء مِيزات أكثر زادت قدرتها على التكيّف والاستمرار، «فالاستمرار يعني الوجود» كما يقول علماء «الميزياء». البقاء الأطول للتقدميين المبدعين، السابقين لعصرهم، الباحثين عن الفرص والابتكار والتجديد. هؤلاء يدركون أن الكتب والموسيقى والفن والعمارة والتصوير والسينما أشياء خالدة لا تموت إلا عندما نتوقف عن تطويرها.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 4396 - الجمعة 19 سبتمبر 2014م الموافق 25 ذي القعدة 1435هـ
بصىطه
انشغل المولد صح والا غلط ياسلام
الكتاب
مازال حمل الكتاب بين اليدين متعه لا تضاهيها متعة تصفح الكتاب الكترونيا . ماذا لو قطعت الكهرباء؟
القراءة غذاء العقل والروح
بغض النظر عن القراءة عن طريق الكتاب التقليدي أو الألكتروني محب القراءة سوف يقرأ .. الكتاب الألكتروني سهل أمور كثيرة ولكن لازال التقليدي باقي ..