العدد 439 - الثلثاء 18 نوفمبر 2003م الموافق 23 رمضان 1424هـ

عبدالله الزايد... قبل أن تبهت الألوان

يوسف أحمد الشيراوي comments [at] alwasatnews.com

أشيد بالجهد الذي بذل لإحياء ذكرى ذلك المفكر والمبدع البحريني الذي ترك وجيله بصماتهم على تاريخ البحرين الفكري والثقافي، ومادا تقديري إلى الشيخة مي بنت محمد بن ابراهيم آل خليفة لما بذلته من فكر نير وجهد متواصل لإحياء ذلك التراث في هذا البلد العريق. وجاء احياء ذكرى المرحوم عبدالله علي الزايد، بعد اهمال لا أجد له أي عذر، دام ما يناهز ستة عقود من عمر هذا البلد.

مات الزايد في منتصف العقد الرابع من حياته فسجل لنا، من ناحية، حلما وطموحا وحياة غنية بالعطاء لم تتحقق بسبب تلك الوفاة السريعة والعمر القصير. كما انه توفي في ظرف كانت البحرين تمر فيه بمخاض سياسي وفكري ألهى البحرين عن التفكير في ذاتها وخصوصياتها.

مات بعد انتهاء الحرب العالمية بعدة أسابيع، واهتم الفكر البحريني عموما بالتغيرات التي عصفت بالعالم بسبب تلك الحرب. كانت الهند تخطط للاستقلال والانطواء لبناء الداخل، فتغير نمط الحياة الاقتصادية المبنية على اسواق الهند المفتوحة لأبناء الخليج وتجار اللؤلؤ. وكانت الصناعة النفطية في طفولتها لم تترك بعد الآثار الاقتصادية والتغيرات الحياتية التي غيرت حياة المنطقة بعد ذلك.

وبدأ الفكر الوطني يتحدث عن انتماءات كانت كامنة ويحركها الشعور العربي القومي، ويدفع البحرين تدريجيا الى عالم عربي أعمق وأوسع تضاءلت في خياله صورة البحرين وخصوصياتها.

أقام له نادي البحرين حفلة تأبينية في ذلك الصيف (يوليو/تموز 1945) وكل ما اتذكره رثاء الشاعر عبدالرحمن المعاودة. بكى المعاودة وامتلأت العيون بالدموع، ثم نسيت البحرين والمحرق عبدالله الزايد كما قلت.

لم ادخل البيت بعد ترميمه - كما قلت - وآمل أن اقوم بذلك في القريب العاجل، ولكني اتذكر البيت بكل وضوح. كان والدي من أصدقاء عبدالله الزايد. وكان يزوره في الصباح. يقعدان على طرف بركة بمساحة مترين في مترين في وسط البيت ملتصقة بالحائط الجنوبي، يتناولان القهوة ويتحدثان عن البحرين والوجود البريطاني في الشرق العربي. وكانا يسهران بعد العشاء. اخبرتني والدتي انه في احدى الليالي أوصل عبدالله الزايد الوالد إلى البيت، والظاهر أن الحديث لم ينته، فأوصل والدي عبدالله الزايد إلى بيته. ثم سمعت في ذلك الليل البهيم صوت رجلين يتحدثان في الشارع في تلك الليالي الحالكة في المحرق (الظاهر أن الموضوع لم يتم فعاد عبدالله يوصل والدي إلى بيته) تقول - رحمها الله - إنهما ظلا هكذا حتى أذن الفجر!

ما فضل عبدالله الزايد وجيله من أمثال الشيخ محمد بن عبدالله آل خليفة وأحمد فخرو وأحمد بن شاهين الجلاهمة والرجال الذين ولدوا في مطالع القرن الماضي؟ فاتهم قطار التعليم الحديث (مدرسة الهداية الخليفية في المحرق بدأت العام 1919م) بعد ان كبروا وشغلتهم الحياة، ولكنهم فتحوا النادي الأدبي وعلموا أنفسهم. ما مصادرهم؟... يجيب والدي رحمه الله: علمهم القرآن الكريم وديوان المتنبي ومجلة «الهلال» التي كانت تصدر في مصر آنذاك. ومن ثم المقالات التي كان ينشرها طه حسين ثم جمعت في «حديث الاربعاء» في عشرينات القرن الماضي. اجتماعاتهم خلقت حركة ادبية لم تعرفها دول الخليج إلا بعد البحرين بحوالي ربع قرن من الزمان، ما جعل البحرين مركزا ثقافيا متميزا، وكان عبدالله الزايد رائد تلك النهضة ومن أعضائها البارزين.

اشترك في السنوات الأخيرة من حياته في تأسيس «مطبعة البحرين» واصدار أول صحيفة في الخليج، وساهم في بناء أول دار للسينما في البحرين ما بين العامين 1937 و1939. كنت في السنوات الأولى من حياتي عندما أصر والدي على أن أحضر حفل افتتاح المطبعة الذي حضره المغفور له الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة. وللذين يحاولون تحديث الموقع فإنه يشمل مبنى شركة البرق في شارع الخليفة اليوم. كان الموقع آنذاك موقعا مفتوحا يقع بين شارع الحكومة وشارع الخليفة وكان الاحتفال مهيبا في أمسية ذلك اليوم، وقد شاهد سموه - رحمه الله - آنذاك قصيدة عبدالله الزايد وهي تطبع على الآلة الصغيرة وأشاد بعظمته.

تبع ذلك احتفال البحرين بافتتاح «سينما البحرين» التي اسسها الزايد - رحمه الله - مع شخصيات تجارية مهمة أذكر منها الوجيه حسين يتيم. وقد بنيت السينما في الخلاء خارج مدينة المنامة آنذاك ومازال الموقع موجودا قرب المقبرة في المنامة ومحطة البترول أمام شارع الشيخ عيسى (المنامة/الجفير). اذكر أن الفيلم هندي ثم عرض فيلم أم كلثوم عن الفنانة العباسية «دنانير».

والصورة الأخيرة في ذهني عن عبدالله الزايد هي صدور صحيفة «البحرين» في ربيع ذلك العام، إذ وزع العدد الأول في «سينما البحرين» وبيعت النسخة الواحدة بـ (آنة واحدة) - أربع بيزات من العملة الهندية السائدة آنذاك وتساوي 6,25 فلوس في وقتنا هذا. كانت القوة الشرائية للمبلغ آنذاك تساوي 60 فلسا من القوة الشرائية الحالية للعملة.

آخر ذكرياتي أن صحيفة «البحرين» نشرت في نوفمبر/تشرين الثاني في العام 1940 خبر اجراء امتحانات لدخول المدرسة الثانوية (أول مدرسة ثانوية في الخليج آنذاك) التي فتحت في ذلك العام، وذكرت اسمي بالحرف الواحد بأنني نلت الدرجات الرفيعة في كل المواد. وآمل أن أعيد قراءة ذلك العدد عندما أزور البيت. تصور شعور ناشئ ما كاد يبلغ الثانية عشرة من العمر وهو يقرأ اسمه «خبرا» في صحيفة يومية عامة.

ختاما، طغى الفكر القومي العربي والاشتراكي العالمي على عقول كل الاجيال التي تعلمت في الخارج، ما غطى ومحى سيرة الآباء الذين بقوا على ثقافتهم وخصوصيات بلدهم ونقلوا تلك الروح الى أبنائهم من جيلنا.

سجل الاحصاء السكاني الذي قامت به حكومة البحرين العام 1941 قبل وفاة الزايد بأربع سنوات، أن نسبة (معرفة القراءة والكتابة) لم تتجاوز 2,5 في المئة من سكان البحرين. وإذا كان الرقم الحالي يبلغ 95 في المئة فإن ذلك تحية للجهود العظيمة التي اعتمدتها الحكومة خلال 70 سنة من التاريخ وتدل على عمق ثقافة الآباء الذين حثوا وحضوا على الاقبال والاندفاع لطلب العلم والمعرفة.

رحم الله الزايد وجيله

العدد 439 - الثلثاء 18 نوفمبر 2003م الموافق 23 رمضان 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً