لم تكن المنامة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي كما هي عليه اليوم مدينة مزدهرة بمبانيها الشاهقة، وشوارعها الواسعة، وجسورها المعلقة، ومجمعاتها التجارية المختلفة، الأمر الذي جعلها بحق من بين المدن الحديثة في العالم.
لقد كانت المنامة في العقدين المذكورين مدينة بسيطة ومتواضعة في مبانيها التي لا ترتفع أكثر من طابقين في معظمها في سنوات الخمسينات، والتي طليت باللون الأبيض، وبنيت من الحجارة والأسمنت، واستخدم الطوب لاحقاً.
وكانت هناك مبانٍ وصلت إلى أكثر من ثلاثة طوابق وخصوصاً في عقد الستينات، وهو العقد الذي شهد ظاهرة تشييد المباني المتعددة الطوابق على نطاق ضيق.
كانت شوارع المدينة ضيقةً كشارع الشيخ عبدالله، وهو أحد شوارعها التجارية الرئيسية آنذاك، كما أن طرق الأحياء فيها كفريق المخارقة، والحطب، والحمام، والفاضل وغيرها طرق ضيقة تتفرغ منها أزقة تتباين في طولها وعرضها. أما المنازل فهي بسيطة في تصميمها ملتصقة بعضها ببعض، ومساحتها محدودة عدا بعض منازل كبار تجار المنامة. وقد ساعد قرب المنازل بعضها من بعض على الترابط الاجتماعي بين سكان تلك الأحياء.
عانت تلك الأحياء في فصل الشتاء، فبمجرد هطول الأمطار تتجمع المياه في شوارعها وطرقها وأزقتها، خصوصاً أن الأمطار كانت تسقط في السابق بغزارةٍ ولعدة أيام متواصلة، كما أنه لا توجد بنية تحتية لتلك الشوارع كما هي اليوم، ويتذكر كبار السن من أبناء المنامة صعوبة تلك الفترة.
وإذا كانت المنامة تعاني في فترة الشتاء في موسم الأمطار، فإنها تعاني في فصل الصيف من شدة الحرارة المرتفعة، فالمنازل ضيقة وملتصقة بعضها ببعض، الأمر الذي يجعل من الصعوبة أن تتخلل نسمات الهواء بين المنازل، خصوصاً أن إمكانيات المواطن البحريني المادية في تلك الفترة ضعيفة لا تمكنه من شراء مكيف هواء لمنزله.
وعلى الرغم مما ذكرته من وصف لمدينة المنامة، إلا أن هناك ومضات مضيئة تعتز بها عاصمتنا المنامة، في سنوات الخمسينات والستينات، وهي ومضات نفخر بها نحن جميعاً أبناء البحرين لأنها أساس النهضة الحديثة في البلاد، وهي جديرة بالتوثيق والنشر ليتعرف عليها الجيل الحالي والأجيال القادمة، ولتعيد إلى ذاكرة الجيل الذي عاصر تلك الفترة الفرحة بتوثيق عطاء مدينته.
تعد المنامة على الرغم مما تم ذكره من وصف، أفضل مناطق البحرين وأجملها مقارنةً ببقية المدن والقرى والبلدات الصغيرة التي كانت منازلها متواضعةً جداً، وهي خليط بين المنازل المبنية من سعف النخيل والمنازل المبنية من الحجارة البرية أو البحرية، ومن الطين أو الاسمنت. وقد شهدت سنوات الخمسينيات والستينيات تشكل ونمو ضواحٍ جديدة لمدينة المنامة، تتمثل في السلمانية والقضيبية والعدلية والقفول، على أيدي أبناء المنامة أنفسهم الذين نزح بعضهم من الأحياء القديمة بالعاصمة إلى الضواحي الجديدة.
تميزت المنازل في الضواحي الجديدة بالحداثة والتخطيط العمراني، حيث أن أحياء مدينة المنامة القديمة بنيت بشكل عشوائي، حالها في ذلك حال بقية قرى ومدن البحرين. وشهدت الضواحي الجديدة بروز المؤسسات المهمة. فقد شهدت القضيبية بناء قصر الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة حاكم البلاد آنذاك في الأربعينات من القرن الماضي، وكان المبنى الوحيد في تلك المنطقة أثناء تشييد القصر. وفي العام 1950 بني بالقضيبية القسم الداخلي والمدرسة الثانوية، كما بُنيت وزارة التربية والتعليم (مديرية المعارف سابقاً) في الستينات. أما ضاحية السلمانية فقد أسس فيها أكبر مستشفيات البحرين، وهو مستشفى السلمانية. وفي العدلية افتتحت محطة إذاعة البحرين اللاسلكية في العام 1955، كما افتتحت حديقة الأندلس والحديقة النسائية الواقعة بين القضيبية والسلمانية والقريبة من العدلية.
تأسست فوق تراب مدينة المنامة الجمعيات النسائية، والتي منها جمعية نهضة فتاة البحرين، ولحقتها جمعية رعاية الطفل. وفي العام 1953 تأسّس في المنامة أول نادٍ للسيدات، وكانت تجربة رائعة وإن لم تستمر طويلاً. وما كان للجمعيات النسائية أن تستمر لولا تقبل أهالي المنامة وتشجيعهم لفكرة وجود الجمعيات النسائية، حيث لم يعترض عليها أحد من أبناء العاصمة.
أخذت المؤسسات الثقافية والفنية تبرز في سنوات الخمسينات والستينات، فقد تأسست بالمنامة في الخمسينات «ندوة الفن والأدب» و«الفرقة التمثيلية المتنقلة». وفي الستينات تأسست «أسرة الأدباء والكتاب في البحرين» والتي لمت شمل معظم الأدباء والكتاب آنذاك.
كان أبناء المنامة يمثلون في تلك الفترة الطبقة المتميّزة والراقية المتعلمة والمثقفة. كما كانوا يتقبلون كل جديد نظراً لاحتكاكهم بالجاليات الأجنبية، وسفر بعضهم خارج البلاد لطلب العلم أو للتجارة، خصوصاً إلى الهند وبعض الدول الغربية، ما زاد من ثقافتهم ووسع مداركهم... على عكس بقية السكان المحافظين وخصوصاً المجتمعات القروية الذين كانوا ينظرون بإعجاب شديد إلى أبناء عاصمتهم باعتبارهم طبقة راقية ومتعلمة، ويحتل معظمهم المراكز في الدولة وفي المؤسسات والشركات المختلفة، ويجيد الكثير منهم عدة لغات نظراً لتفاعلهم مع الجاليات الأجنبية. كما أن معظم مدراء المدارس، وهي من الوظائف العليا في الدولة حينذاك، من أبناء مدينة المنامة، بل أن غالبية المدرسين منهم.
كانت العوائل المعروفة بالمنامة كعائلات: العريض، وبن رجب، والعلوي، وكانو، والمؤيد، والجشي، والبحارنة ودويغر وغيرهم من العوائل المعروفة، قد دفعوا بأبنائهم وبناتهم للدراسة الجامعية في خارج البلاد، فتخرج الرعيل الأول من الأطباء والمهندسين والمحامين وبقية التخصصات الأخرى. ويعد الدكتور حسين محمد البحارنة أول بحريني حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن. كما تعد الدكتورة غالية دويغر أول طبيبة بحرينية وقد تخرجت من إحدى جامعات موسكو.
والمنامة هي مهد جيل الرواد المستنيرين الذين قدموا عطاءً في المجال الثقافي والعلمي، كالأستاذ إبراهيم العريض، وحسن جواد الجشي، ومحمد علي التاجر، وناصر الخيري، وسلمان كمال، ورضي الموسوي، وتقي محمد البحارنة، وسلمان التاجر. كما كانت المنامة مهد الحركة الوطنية التي جمعت أبناء البحرين بمختلف تلاوينهم في الفترة من العام 1954 إلى العام 1956. (يتبع).
إقرأ أيضا لـ "منصور محمد سرحان"العدد 4385 - الإثنين 08 سبتمبر 2014م الموافق 14 ذي القعدة 1435هـ
لا يا دكتور
اذا كانت هذه عوائل المنامة ... فأنت لا تعرف عن النانو شيئا ... ثم اين نادي العروبة والمدرسة الجعفرية وقلعة الديوان وذاكرة المنامة ( بيت بن خلف ) والكنائس والمعابد ووووووووو
الحنين للماضي
لا يهم ان تكون المدينة فيها أبنية شاهقة و لا تغرق عند هطول الامطار. المهم ان تكون مكان تجمع الناس و تشعرهم بان لهم علاقات و مودة. لا ان يسيروا فيها و يشعروا بالغربة. بالمناسبة وريثة العروش الأميرة بديعة التي زارت بصحبة الملك فيصل الثاني البحرين في نفس الوقت تذكر بان المنامة و أسواقها كانت افضل و أحدث من الكويت.