عند الحديث عن الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة، يتم الحديث كثيراً عن «الخصوصية» كعنوان لطريقة التعاطي مع التحديات الداخلية، خصوصاً في ظل الأحداث المتتالية. وتقوم فكرة الخصوصية على أساس أن منطقة الخليج مختلفة عن محيطه العربي المباشر، والمحيط العالمي الأوسع، وبالتالي فإن تعاطيه يختلف في كيفية مواجهة التحديات.
ربما تحتاج «الخصوصية» إلى قراءات متجددة، ومتواكبة مع التطورات المتسارعة في المنطقة، لا تلغي المميزات الخليجية المشتركة والمؤثرة في مسار التطور السياسي ولكنها، في الوقت نفسه، تطرح الأسئلة حول القدرة الفعلية لهذه الخصوصية في تسييج المجتمعات وعزلها عن الطموح في تطور سياسي متناسب مع الحراكات السياسية المتسارعة في الوقت الراهن.
بات الحديث عن الخصوصية جزءًا مهماً من عملية تفسير التطور التدريجي البطئ في مسار التطور السياسي في الخليج، ولذلك يبدو من الممكن الربط بين هذا الطرح والحديث عن معوقات الديمقراطية في دول الخليج العربي. يتناول بعض الكتاب العديد من هذه المعوقات ومن ضمنها المصالح الكبرى للدول الغربية في الخليج نتيجة للنفط والموقع الاستراتيجي المهم. يضاف إلى ذلك تأثيرات اكتشاف النفط على المناحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وما نتج عن ذلك من نشوء مجتمعات خليجية معتمدة بشكل كبير على العمالة الآسيوية التي تشكل نسبة كبيرة من سكان دول الخليج، الأمر الذي ينعكس سلباً على قوة المجتمع الخليجي وترابطه وقدرته على الدفع باتجاه مشاركة سياسية أكبر. كما أن مردودات النفط الكبيرة تسمح للدولة بتوفير الخدمات المجانية التي قد تفضي إلى حالة من التغاضي عن الشعور بالحاجة للتطور السياسي. كما يتم التطرق أيضاً إلى تأثير الهويات القبلية والمذهبية وانعكاساتها على طريقة التعاطي مع الحاجات والمطالب السياسية.
يمكن مناقشة مفهوم الخصوصية وأثره كمعيق للديمقراطية في الخليج من خلال طرح بعض الإثارات. أولاً، إن الخصوصية الخليجية قد لا تكون معيقاً في حد ذاتها وإنما تحدياً يقتضي المواجهة والتذليل بدل الاستسلام له. الخصوصية لا تعني بالضرورة التباطؤ في عملية التطور السياسي وإنما تعني أن عملية الإصلاح تحتاج إلى الالتفات إليها. بكلمات أخرى، لكل بيئة اجتماعية خصوصياتها التي يجب أن تراعى، ولكن هذه الخصوصيات لا تمنع أو تؤجل أو تبطئ التطور السياسي وإنما قد تؤثر في كيفية توجيهه وفي الشكل الديمقراطي المناسب.
لم تمنع الخصوصيات الغربية أو الأفريقية، رغم اختلافها الشاسع، المجتمعات الغربية والأفريقية من التطور الديمقراطي رغم بعض الفروق التي قد يفرضها الاختلاف الطبيعي بين المجتمعات. فالخصوصية ليست مانعاً للتطور السياسي وإنما قد تساهم في رسم معالمه القائمة على اختلاف المجتمع الخليجي عن غيره من المجتمعات.
من جهة أخرى فإن مفهوم الخصوصية يجب أن يعطى حقه من التطور، خصوصاً مع تطور المجتمعات الخليجية نفسها. تبدو المجتمعات الخليجية اليوم في حالة غير مسبوقة من الارتباط بقضايا الديمقراطية والإصلاح وحقوق الإنسان، ولا سيما مع تطور وسائل التواصل ومع الأحداث التي شهدتها المنطقة مع انطلاقة الربيع العربي في 2011. رغم اختلافها في التعاطي مع بعض الملفات، تفاعلت المجتمعات الخليجية بشكل لافت مع المطالب السياسية لثوار تونس ومصر وسورية، وصارت داعمة للحركات الشعبية المطالبة بالديمقراطية. لم تكن الخصوصية الخليجية مانعاً من التفاعل مع هذه الحركات الشعبية ما يعني أن مفاهيم الديمقراطية ليست غائبة أو لم تعد غريبة على المجتمعات الخليجية.
يضاف إلى ذلك، أن الهويات القبلية والمذهبية، التي تعد إحدى أبرز عناصر الخصوصية الخليجية، قد تطورت هي الأخرى بدليل قدرتها على التعاطي مع المؤسسات والمحاور الدولية القائمة على أسس وقوانين مدنية حديثة. بعبارة أخرى، إذا كانت الهويات القبلية والمذهبية لم تمنع دول الخليج من التعاطي والتفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي القائم على أسس ومفاهيم حديثة فإنها لن تمنعها من التعاطي بنفس التفاعلية مع المفاهيم الحديثة الخاصة بالديمقراطية في الداخل الخليجي. فالدول الخليجية تمارس الفعل الديمقراطي في مؤسسات الأمم المتحدة مثلاً، فيحق لها التصويت ويحق لها الترشح ويحق لها الموافقة ويحق لها الاعتراض، كما تمارس السياسة الخارجية الدولية القائمة على المفاهيم السياسية الحديثة بكل تفاعلية ودون أن تكون الخصوصية الخليجية عائقاً أمامها. هذا التفاعل في السياسة الخارجية القائمة على المفاهيم السياسية الحديثة يؤشر إلى قدرة الهويات القبلية والمذهبية الخليجية على التعاطي مع السياسة المعاصرة بمفرداتها وأساليبها المعاصرة، وهذا ما يحتاج إلى ممارسة وتفعيل في الداخل الخليجي أيضاً.
الهويات القبلية أو المذهبية في الخليج قد ينظر إليها على أنها معوقات للوصول إلى الديمقراطية المنشودة، ولكن حتى الديمقراطيات الغربية لديها ما يعوق ديمقراطياتها من إعلام موجه وسطوة رؤوس الأموال واللوبيات وتأثيراتها على الديمقراطية. بمعنى آخر، لكل بلد ينشد الديمقراطية المعوقات التي يفرزها المجتمع بثقافته، وبالتالي فإن التعاطي مع تلك المعوقات يتطلب الجرأة في اتخاذ القرار في التعاطي معها وليس التسليم بإعاقتها للديمقراطية.
ومما يثار هنا أيضاً هو أن بعض التجارب الخليجية الناجحة في مجال التطور السياسي تثبت بأن الخصوصية الخليجية لا تصمد أمام القرار السياسي المصر على تجاوزها. على المستوى الخليجي، لم تمنع الخصوصية الخليجية الكويت من الوصول إلى مساحة متطورة من العمل السياسي، مقارنة بدول الخليج الأخرى، واستطاعت بإرادة حكومية ومجتمعية مشتركة أن تصل إلى توافق على دستور ينظم الحياة السياسية في الكويت ويمنح برلمانها صلاحيات واسعة. أما على مستوى الداخل البحريني، فإن الخصوصية الخليجية لم تمنع البحرين من التوافق على المضي قدماً في عملية الإصلاح والتطور الديمقراطي كما حصل في السبعينيات مع الاتفاق على الدستور والبدء بالحياة البرلمانية، وكما حصل في التوافق على الميثاق العام 2001. صحيح أن هذه التجارب واجهتها بعض العقبات والتحديات التي أثرت في مساراتها النهائية، ولكن الأمر المهم هنا هو أن الخصوصية الخليجية في حد ذاتها ليست لديها القدرة على إعاقة القرار السياسي المتوافق مع الإرادة الشعبية. بكلمات أخرى، إن القرار السياسي المتوافق عليه والقادر على تخطي معوقات الخصوصية الخليجية في مرحلة التأسيس للمشاريع السياسية، كدستور 73 والميثاق، قد يكون قادراً أيضاً على تخطي معوقات الخصوصية الخليجية في الاستمرار في هذه المشاريع والإصرار عليها.
بعد الربيع العربي لا يبدو مفهوم الخصوصية قادراً على إقناع الكثيرين لتفسير التباطؤ في مسار التطور السياسي في الخليج. هي في أضعف حالاتها وربما لا يحتاج انهيارها سوى لقرار سياسي جرئ يعيد الحياة مجدداً لتوافقات جديدة تفتح آفاقاً جديدة في المسار السياسي الخليجي.
إقرأ أيضا لـ "حسن سعيد"العدد 4383 - السبت 06 سبتمبر 2014م الموافق 12 ذي القعدة 1435هـ
مع الديمقراطية
انا مع ديمقراطية كاملة الصلاحيات و لكن بشرط و هو منع قيام احزاب على أساس ديني او عرقي او طائفي....
الخصوصية
الخصوصية ... ف الحكم هي التي أجهظت مشروع التغيير ف البلاد.وشكراً للكاتب ع المقال الشّيق.