بعد مواجهة ملحمية، بين المقاومة الفلسطينية وشعب غزة من جهة وقوات الاحتلال الإسرائيلي، التي شنت حرب إبادة وحشية، استمرت لواحد وخمسين يوماً، بالكمال والتمام، وارتقاء أكثر من ألفين ومئتي شهيد، واثني عشر ألفاً من الجرحى، توقف العدوان، دون تمكنه من تحقيق أي من أهدافه المعلنة، وغير المعلنة. فلا هو نجح في تجريد المقاومة من سلاحها، ولا هو تمكن من تحقيق اختراقات في هجومه البري، والأكثر من ذلك أنه فشل في تخريب الوحدة الوطنية، وعزل قطاع غزة عن محيطه الفلسطيني بالضفة الغربية ومدينة القدس، ولا حتى في الأراضي المحتلة، التي أقام عليها كيانه الغاصب، منذ العام 1948.
لماذا فشل العدوان على غزة؟ سؤال نتناوله بالقراءة والتحليل، والهدف ليس أخذ العبرة من الصمود العظيم لأهلنا في القطاع المحاصر، التي أسقط فوق رؤوسه قرابة عشرين ألف طن من المتفجرات، وهدم أكثر من 2000 وحدة سكنية، وتعرض أكثر من ربع سكانه للتشرد والتهجير. فما يهمنا في هذه القراءة، هي علاقة ما جرى بالمستقبل، وبطبيعة الاستراتيجية المطلوبة لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، في مرحلة ما بعد صمود وانتصار غزة.
وابتداء، يجدر التذكير بأن أسطورة الجيش الذي لا يقهر، لم تكن يوماً كذلك، بل هي فرية من صنع العدو. وقد تسللت للأسف الشديد إلى أدبياتنا، في لحظات من اليأس وفقدان الرؤية والإرادة. فقد واجه العدو الصهيوني ولا يزال، هزائم متكررة في مواجهات ملحمية، بدأت مباشرة، بعد شهور قليلة، من نكسة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، فيما أصبح معروفاً بحرب الاستنزاف، التي بدأت بإغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات»، على يد قوات البحرية المصرية.
وكانت معركة العبور العظيم في السادس من أكتوبر 1973، حيث تمكنت القوات المصرية، وبسرعة فاقت كل التصورات، من عبور ممر مائي صعب، وحطمت خط بارليف، الذي فاخر الصهاينة بمتانته، واعتباره إحدى معجزات العسكرية الإسرائيلية.
لم يحقق الصهاينة أي نصر عسكري حاسم على الأمة العربية، في كل الاعتداءات والحروب التي شنت على الأمة العربية، بما في ذلك اجتياح بيروت العام 1982، حيث قاتل الفلسطينيون ببسالة لما يزيد على الثمانين يوماً، وغادروا بيروت، حاملين بنادقهم عالياً، ولم يستسلموا أو يرفعوا الراية البيضاء. وظروف قبولهم بمغادرة بيروت معروفة، لكل متابع لمسار تلك الحقبة، من النضال الوطني الفلسطيني.
وفشلت رئاسة أركان إسحق رابين، مرةً أخرى، في كسر إرادة انتفاضة أطفال الحجارة، في قطاع غزة والضفة الغربية ومدينة القدس، في نهاية الثمانينيات. ومن قبل أجبرت على الانسحاب من بيروت جارة أذيال الخيبة، ولتنسحب نهائياً، وبطريقة مذلة، ومن دون قيد أو شرط، من جنوب لبنان العام 2000، بعد منازلة أسطورية من قبل المقاومة اللبنانية. ولم يكن صمود المقاومة الفلسطينية في انتفاضة الأقصى وصمود اللبنانيين العام 2006، في مواجهة العدوان الإسرائيلي، إلا استمراراً لمواجهات عربية سابقة.
لكن صمود غزة وبسالتها، هو شيء آخر. فهذا الشريط الضيق، الذي لا تتجاوز مساحته 360 كم مربعاً، بطول 41 كم فقط، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، محاصر شرقاً وشمالاً من الكيان الغاصب، وغرباً بالبحر الأبيض المتوسط، والذي يتعرض لحصار جائر من قبل العدو الصهيوني، منذ ثماني سنوات، تمكن بصموده وبسالة مقاتليه من وضع آخر مسمار، في نظرية الأمن الإسرائيلي، بالجملة والتفصيل.
لقد قاتل الفلسطينيون، بخلاف قتال مقاومة لبنان، وهم محاصرون من كل جهة. فلا بيئة مجاورة مساندة، ولا عمق استراتيجي، ولا حليف يقدم الإسناد اللوجستي، ولا دعم بالسلاح أثناء احتدام معركة المواجهة مع العدو الصهيوني. لكنهم أكدوا بما قدموه من مثل، أن عنف المحتل، لا يمكن أن يواجه بنظيره. لقد أكدوا في مواجهتهم للعدو، أن المعارك العادلة، لا يمكن أن تكون فاعلة، متى ما تخلت عن قيمها الوطنية والقومية، والبعد الأخلاقي، فكانت النتائج مئات القتلى من الأطفال، والمدنيين العزل، والشيوخ والعجزة والنساء في صفوف الفلسطينيين.
وعلى الجانب الآخر، كانت الخسائر طفيفة جداً، في صفوف العدو، رغم ما أحدثته المواجهة معه من حالة ذعر وخوف وهلع في صفوفه. وكان جل قتلاه من العسكريين، بينما كانت الخسائر الأكبر، في قطاع غزة المحتل، من المدنيين. وبالمثل استهدف المقاومون الفلسطينيون المواقع العسكرية الإسرائيلية، بينما استهدفت الصهاينة، منازل المدنيين، وأبراج السكن، ومحطات الكهرباء والمياه، ومواقع الصرف الصحي. فكانت المعركة من الجانب الفلسطيني، رغم أنها معركة وجود، معركة أخلاقية، بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
وبالمثل، بدأ الإسرائيليون العدوان، في جبهة موحدة صلبة وانتهوا متفرقين، في حين رد الفلسطينيون على العدوان، وهم قوى متعددة، ومختلفة في رؤيتها ونهجها، ولكنها انصهرت، أمام عنف المحتل، في جبهة واحدة، وفشلت كل مراهنات العدو على تمزيقها.
الخلل الحقيقي في معادلة صراعنا مع العدو الصهيوني، هو أننا دائماً نثبت جسارة وشجاعة نادرة في المواجهة العسكرية، ونفشل المخططات الصهيونية، لكن العدو يكسب دائماً في ميادين السياسة. ويعود ذلك إلى أن الأزمات وعنف المحتل توحدنا، ولكن الخيارات السياسية تفرقنا، وتودي بنا إلى الفشل الذريع.
القضية الفلسطينية الآن، على أبواب منعطف تاريخي، فالمفاوضات مع العدو سوف تعاود مسارها قريباً. والخشية هي أن يتمكن العدو من إنجاز ما عجز عن تحقيقه في الميدان، من خلال بوابات صراعاتنا واختلافنا. وليس من سبيل لإفشال مخططات العدوان، سوى استحضار دروس معركة غزة، فبوحدة خنادق المقاومة صنعنا النصر، وبوحدة هذه الخنادق في ميدان السياسة نتمكن من إفشال كل مخططات العدو، ونحقق نصراً مؤزراً آخر، فهل تكون مقاومة غزة وبسالتها درساً بليغاً لما تعنيه كلمة الوحدة والانتصار لمرحلة ما بعد غزة؟
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4381 - الخميس 04 سبتمبر 2014م الموافق 10 ذي القعدة 1435هـ